إن فكر "المقاومة" هو أحد اهم ميزات المجموعات المسلحة الأقوى في الشرق الأوسط. ولكن آن الأوان لتقديم مفهوم جديد، وربما، مصطلح جديد لوسائل الإعلام الغربية.
ان الميليشيات الشيعية الداعمة للنظام السوري تشكل معظم قدرته القتالية وتلعب دوراً رئيسياً في المعارك الدائرة في سوريا؛ كما أنها موضع نقاش محتدم. تمتلك معظم هذه الميليشيات أيديولوجية تنظيمية متينة، تشمل منظور شامل وخطة تطبيق ومرونة فائقة في التنفيذ. بالإضافة إلى انهم ينتشرون بسرعة، مستندين على نماذج مجربة ومختبرة، تحاكي التكاثر بالانقسام الخلوي واستنساخ هذه الميليشيات.
دون تحيز لأي من التقييمات السياسية والأخلاقية لأهدافهم، يخطر على بال المرء أن يتساءل عن المعنى الدقيق "للجهاد" بالنسبة للميليشيات الشيعية.
تعكس هذه المجموعات رموزاً دينية فتبدوا وكأنها تتنافس وتبدع في تسمية مجموعاتها بأسماء تجتذب الشيعة في الشرق الأوسط وآسيا. تكون معاركهم ضد من يروهم مجموعات إرهابية شريرة، تكفيرية، مشيرين إلى المجموعات التي تصنف الشيعة ضمن "الغير مسلمين" وبذلك يصبحون هدفاً مشروعاً للقتال. وبالطبع فإن الميليشيات الشيعية يطلقون على مساعيهم في "الحرب ضد الإرهاب" اسم "الجهاد".
لذلك يطلق العديد من المحللين والكتاب وصف الجهاديين أو الجهاديين الشيعة على تلك المجموعات؛ هذه التسمية يمكن أن تدل في بعض الحالات إلى أن الميليشيات الشيعية ليست أفضل من داعش أو من هيئة تحرير الشام، التي كانت تدعى سابقاً جبهة النصرة، معتبرة أنهم وجهان لعملة واحدة. يخرج من واشنطن، ومن قبل الأكثرية السنية السورية المعارضة في بالتحديد، صيحات تقول: لماذا عندما نقاتل المتطرفين السنة يترك للميليشيات الشيعة، قصداً، الحرية لمتابعة تنفيذ مشروعها، التوسع الشيعي وبالتالي التوسع الايراني؟
دون تحيز لأي من التقييمات السياسية والأخلاقية لأهدافهم، يخطر على بال المرء أن يتساءل عن المعنى الدقيق "للجهاد" بالنسبة للميليشيات الشيعية وبالتالي يمكن أن يطرح تسمية أخرى، وهي المقاومة. تبدو هذه التسمية المستعارة معقدة بعض الشيء، ولكنها يمكن أن تساعد التقييم التحليلي. نشأ مصطلح المقاومة من "المقاومة الإسلامية"، ويمكن اعتبار هذا المصطلح "الإيديولوجية التأسيسية" بل انها تعتبر، في بعض الأحيان، نهجاً حياة لكل من حزب الله وقوات الباسيج وقوات الحرس الثوري الايراني.
فهي تضع المقاومة ضد الاضطهاد، سواءً كان خارجياً او داخلياً، هدفاً لعملياتهم. بغض النظر إن كانت المقاومة مسلحة أو لا، فهي ضرورية لتحقيق العدالة التي بدورها تهيئ الظروف؛ بحسب معتقدات بعض المجموعات؛ لظهور المهدي، المخلص. يبرز في الفكر الشيعي مواضيع الظلم والاضطهاد والأمل بإقامة مجتمع مسلم أفضل من خلال المقاومة. بحسب الفكر الشيعي، فقد حُرم آل البيت من حقهم الشرعي بقيادة المسلمين من قبل الأمويين الفاسدين، الذين كانوا يقمعون نسب الأئمة من آل البيت، وكاد النسب ان يمحى، بسبب الاغتيالات التي كانت تأمر بها الطبقة الحاكمة، لولا الرابط الإلهي الوثيق بالأئمة.
أصبح روح المقاومة الدائمة ضد إسرائيل، الشاه، التكفيريين الوهابيين في المملكة العربية السعودية، الاستعمار وبالطبع الولايات المتحدة جوهر وجود الكثير من الميليشيات الشيعية. وهي رواية تم الترويج لها جزئياً من قبل الجمهورية الإسلامية الايرانية للتغلغل في المجتمعات من غير الايرانيين الشيعة عبر المنطقة. لطالما كانت هذه إيديولوجية ايران الخميني.
عدم ترابط هذا المبدأ مع ما يحدث في الواقع من مشاركة الميليشيات الشيعية للنظام السوري في القتال والذي يصفونه بالظالم، موضوع نقاش في وقت آخر. هذا التناقض لفت نظر العديد ولكنهم يبررونه بذرائع، مثل انهم يرون أن البديل عن هذا النظام سيكون أسوء بالنسبة لهم، وسيكون مضطهداً للشيعة، تكفيري، وحتى اته سيدمر المزارات الشيعية في سوريا.
بعض افراد تلك الجماعات، مثل "أبو عزرائيل" الشهير، كانوا يستعرضون جرائمهم ضد المتمردين السنة بتباهي.
عندما يطالبون بالزحف للجهاد – المقصود به الصراع المسلح بتشريع إسلامي– فهذا يجعل الاختلافات العميقة في المفاهيم أكثر وضوحاً. حسب ايديولوجيتهم، فمعظم الميليشيات الشيعية تتبع لمرجعية شيعية، أي أنهم يرجعون إلى إمام شيعي سواء إيراني أو عراقي. الأئمة الشيعة بجميع أطيافهم يعرّفون الجهاد في سبيل الله على أنه أكثر من دفاع عن النفس بل يشمل إبعاد المعتدين عن اراضي المسلمين والمجتمع المسلم، بل حتى أنه دفاع عن الدين نفسه. كذلك هو تعريف الجهاد لدى الأئمة السنة التقليديين، لكن المفاهيم القضائية والدينية للمجموعات الجهادية التقليدية تتضمن معاني أشمل.
تقترح إيديولوجية الجهاد ان القتال المسلح غير محدود بزمان أو مكان أو حجم. ولكن هناك عدة تعاريف للجهاد، معظم الخبراء في هذا المجال يتفقون على ان هذه الايديولوجيا تضع الجهاد المسلح لنصرة الإسلام كمركز حياة المسلم، وتختزل مفهوم الجهاد بالكفاح المسلح. ان فكر المجموعات الجهادية شمولي، لذلك يجب أن تكون الحرب شاملة. الهدنة مع الشيعة أو المسيحيين أو مع قوى غير مسلمة أخرى، هي خطوة غير شرعية. لكن في حال كانت الهدنة أمر لا يمكن تجنبه فمن الممكن أن تكون خطوة مؤقتة عملية في الطريق نحو النصر الكامل. هنالك خاصية واضحة في فكر الجهاديين والتي يمكن ملاحظتها في نهج داعش؛ حتى المسلمين السنة الذين لا يتفقون او لا يتّبعون الفكر الجهادي، فهم يُعتبرون ضالين أو حتى كفرة. وبما أنهم عملاء محتملين لنشر الفتنة والخلافات والانشقاقات في صفوف المسلمين، فإنهم اهداف شرعية للقتل والممارسات القمعية.
علاوة على ذلك، ففي هذه الحرب في سبيل الهدف الأسمى، الجهاد في سبيل انشاء خلافة حقيقية، لا يوجد رادع اخلاقي. كل الأساليب متاح استخدمها؛ أسلحة كيماوية، آبار مسممة، التعذيب بأشنع الطرق والتمثيل بالجثث، أي شيء يخدم هدف زرع الرعب في قلوب أعداء الإسلام. برغم ذلك، في داخل المجموعات الجهادية، مثل القاعدة، نلحظ وجود نوع من الجدل حول مدى القسوة المستخدمة والتي قد تنفّر بعض المسلمين. ان الكتابات التنويرية للمفكرين الجهاديين مثل الفلسطيني عبد الله عزام، أبو مصعب السوري او المفكر المشهور الناجي، مؤلف "إدارة التوحش"، لا تدع أدني شك حول مساحة الحرية التي يمنحها الفكر الجهادي لأهواء المجرمين الساديين.
العديد من الميليشيات الشيعية – سواء التي تنشط في العراق تحت اسم الحشد الشعبي أو في سوريا تحت لواء حزب الله أو قوات القدس المدعومة من إيران – جميعها متهمة بجرائم حرب، اعتداءات على المدنيين وإعدامات ميدانية. بعض افراد تلك الجماعات، مثل "أبو عزرائيل" الشهير، كانوا يستعرضون جرائمهم ضد المتمردين السنة بتباهي. كانوا يحاولون جذب انتباه الجماهير من خلال إشباع تعطشهم لمعاقبة المتمردين، وبنفس الوقت ترهيب متمردي داعش للانشقاق وإلا سينتهي بهم الأمر بالشوي على النار، حرفياً.
بكل الأحوال، يبقى فكر المقاومة الرئيسي، القائم على المقاومة الدائمة، اقل شمولية من الفكر الجهادي. يمكن القول انه ليس فكر استبدادي، كما ان الكفاح المسلح فيه محدود بالوقت والمكان.
هذه المفاضلة لا تحتوي على تقييم سياسي او أخلاقي لتلك الحركات او لتصنيفاتهم الأيديولوجية ونظرتهم التي غالباً ما تكون متطرفة. يمكن أيضاً القول إن إيديولوجية المقاومة ليست بالضرورة جاهزة للمساومة، وتحديداً بخصوص إسرائيل. في الواقع، العداوة تجاه ما يشار إليه باسم "الصهيونية" هي الأسطورة المؤسسة والموضوع الاستراتيجي لحركة المقاومة، وذلك يبرر، جزئياً، وجود هذه المقاومة.
وبعد قول ما سبق، فإن تيارات المقاومة اليوم تتفاخر بدعمهما للأقليات الدينية في المنطقة وخاصة المسيحية. حيث أن إيران باتت تقدم نفسها على انها بطلة التعددية الدينية والحامية للمسيحيين واليهود ومؤخراً اليزيدين. وهذا يتباين بشدة مع الفكر الجهادي الذي يتراوح بين القمع، العبودية وإبادة غير المسلمين وأصحاب البدع.
تزداد احتمالية تحول الطرف الذي يدعي محاربة النظام القمعي، إلى مستبد بنفسه
مفهوم المقاومة على أنها القتال المستمر ضد المحتل أو المعتدي لا يقتصر فقط على الشيعة بل أن العديد من الميليشيات السنية مثل حماس وبالتأكيد المجموعات الاشتراكية أو العلمانية مثل جبهة التحرير الوطني الجزائرية والحزب السوري القومي الاجتماعي، قامت بتبنيه. المقاومة الآن ممكن ان تكون وصفاً لأيدولوجيا ليست بالضرورة تحاسب –بل انها تميل لتغطية- الواقع السياسي والاجتماعي لظروف الصراع. وفي هذه الحالة، تزداد احتمالية تحول الطرف الذي يدعي محاربة النظام القمعي، إلى مستبد بنفسه، وينتج عن ذلك ان نرى الأكثرية في المجتمع تتصرف كأقلية مضطهدة، مما يؤدي إلى نتائج كارثية بالنسبة للمجموعات الأخرى في المجتمع.
كمعظم مفاهيم إيديولوجية الحشد الناجحة فإن فكرة المقاومة المستمرة عند الشيعة تتغذى وتكتمل من خلال مواضيع تاريخية تعزف على أوتار المشاعر والفلكلور. على سبيل المثال: نجد بين المقاتلين الشيعة الغير سوريين داخل سوريا، المعتنقين لأيديولوجيا الجهاد ثلاثة أشكال. أولاً، يمكن وصفه بالعملي والذي يرى أن نظام الأسد قابل للاستبدال ولكن يعتبره الأقل شراً. يرى الحرب في سوريا مدفوعة من قبل وهابيين وسلفيين، وفي حال إطاحتهم بالنظام سيزعزعون أمن العراق ويحاصروا إيران.
ثانياً، المقاومين التقليديين، يعتقدون بأن لهم الحق بالقتال بجانب أي جهة مضطهدة من قبل الإمبريالية الغربية، الصهيونية عملائهم الفاسدين. أخيراً، المؤمنين بالآخرة، هم أكثر شبهاً بالمجموعات السلفية والوهابية، هؤلاء يعتقدون بنزول المهدي ويؤمنون بأن أرض سوريا ستكون موقعة الملحمة الكبرى ضد قوى الشر.
كلما تعمقنا بالمجموعة الثالثة –التي هي أقلية منفصلة عن باقي المجموعات – نجد انه نقاط التلاقي بين المقاومة والجهاد موضع جدل. في الحقيقة، المقاومة مصطلح ـ ومن الجيد ان نصنف ونميز المصطلحات. حتى وسائل الاعلام بدأت تميز بين الإسلاميين (كإيديولوجيا سياسية)، والجهاديين (أيديولوجية قتالية). لذلك أصبح مسموحاً أن نأتي بمصطلحات جديدة على اللغات الأجنبية، مبنية على تعابير من اللغة العربية. مبدأ الايديولوجيا الاجتماعية للمقاومة ممكن أن تساعدنا في المستقبل لفهم ديناميكية الخلاف في منطقة الشرق الأوسط ولإيجاد أجوبة أكثر واقعية لمشكلة ظهور جهات فاعلة غير حكومية أو نصف حكومية.
دانيل غيرلاخ: رئيس تحرير مجلة زينيت، مدير منظمة كانديد ورئيس الاستشاريين في مجلس زينيت. الأفكار التي تم طرحها في المقالة ليست بالضرورة تمثل وجهة نظر أي من المنظمات المذكورة. يود الكاتب أن يشكر دكتور والتر بوش من أكاديمية الدفاع الوطني النمساوية على إضافته القيّمة للنص.