يُمكن لتطبيقات المراسة المشفّرة (EMA) مثل "واتساب" إمّا أن تقوم مقام القوة الموازنة لحملات التضليل الإعلامي – أو أن تمهّد الطريق لها. حالة لثلاث بلدان ستلعب فيها تطبيقات المراسلة المشفّرة (EMA) دورًا محوريًا.
لا تشكّل مصر وإثيوبيا وليبيا استثناءً للنجاح العالمي الذي حققته تطبيقات المراسلة المشفّرة (EMA). فقد أضحى "واتساب" تطبيقَ المراسلةِ الأكثر شعبية في مصر، وانتشر "فايبر" انتشارًا واسعًا في ليبيا لسنوات مضت، وتوسّع "تيليجرام" في إثيوبيابشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية.
ظهرت أهمية تطبيقات المراسلة المشفرة في الشأن السياسي في هذه البلدان أوّلَ مرة للعيان سنة 2011، عندما استُعمل "واتساب" لتنسيق المظاهرات، خصوصًا في مصر. ولم تغب أهميّة هذه التطبيقات، طيلة السنوات الماضية، عن بال الأطراف الفاعلة في النظام الساعين لإقناع المواطنين بفعالية ومجهودات النظام (المزعومة) – إذ اكتسبت تطبيقات المراسلة أهميّة متزايدة كمصدر لتلقّي الأخبار.
أصبح الاطلاع على الأخبار عبر تطبيقات المراسلة أمرًا أساسيًا في مصر وإثيوبيا وليبيا - ويرجع ذلك أساسًا إلى ثلاثة أسباب هي: أولاً، يُنظر إلى هذه التطبيقات على أنها أقل تحيزًا – لذا يأمل الناس بواسطتها الحصول على أخبار أقل انحيازًا. تطبيقات المراسلة منصّات مغلقة حيث يُمكن للناس التفاعل، إلى حدّ بعيد، مع أشخاص يعرفون ويثقون بهم. أفصحت إحدى المحاميات الإثيوبيات عن وجود تعطّش للحصول على "أخبار حقيقية" وَسَط مجتمعها – فقد علمنا أنّ "تيليجرام" استحال منصّةً تُجمع فيها "الأخبار الحقيقية."
ثانيًا، لا تتحكم في هذه التطبيقات خوارزميات، لذا يشعر الناس بأنّ لهم سلطة تحكم أكبر فيما يرون. ففي ليبيا، توفر تطبيقات المراسلة، في بعض الأحيان، ملاذًا آمنًا يُجنّبهم المشهد الإعلامي المستقطب الذي يواجهه مستخدمو "فيسبوك". ثالثًا، يقضي الناس الكثير من أوقاتهم أمام هواتفهم – إذ يشيع استخدام "فايبر" في الأعمال التجارية في ليبيا، و يُعدّ "واتساب" وسيلة بالغة الأهميّة للتواصل اليومي في مصر، أمّا في إثيوبيا، فيبدو أنّ "تيليجرام" قد صار المنصّة الأساسية للتنسيق هناك. وقد زادت أهميّة ذلك خاصّةً في إثيوبيا، بحيث تبنّت وسائل الإعلام "تيليجرام"، وطوّرت القنوات ميزة مشاركة مستجدّات الحروب – على غرار ما شاهدناه في أكرانيا.
يؤدّي الاعتماد على تطبيقات المراسلة في تلقّي الأخبار إلى تمكين المواطنين، لأنّه يسمح لهم بالتّحكّم أكثر في ما يرون – فالأشخاص الذين تتواصل معهم عبر "واتساب" أنت من تختارهم جلّهم. وفي الوقت نفسه، يشكّل ذلك نقطة ضعف، لأنّ الأشخاص يصدّقون بسهولة أكبر ما يصلهم عبر تطبيقات المراسلة بسبب ما يحظى به المراسلون من ثقة – ممّا يعرّض الأشخاص إلى خطر الرسائل التضليلية.
سعى مروّجو الدعايات إلى استخدام تطبيقات المراسلة في كلّ من مصر وإثيوبيا وليبيا. والبشرى أنّهم لا يجيدون استغلال تطبيقات المراسلة (بعد) كما يبدو. وعوض ذلك، تمكّنت مصر، بطريقة ما، من إدماج "واتساب" في جهازها الدعائي، غالبًا، بفضل قيام مسؤولي نظامها بالتنسيق مع الصحافيين لانتقاء ما يجب نشره – وترك مهمّة النّشر، في أغلب الأحيان، للصحافيين. سأَلَنَا أحد الصحافيين المصريين قائلًا [مادام الرئيس السيسي وحاشيته] "يتحكّمون في كلّ الصحف والمنصّات والمحطّات والمصارح والمدارس والمناهج الدراسية وكلّ القطاعات الأخرى، فما الغرض من ذلك؟"
أمّا النّبأ السيئ، فهو أنّ مروجي الدعايات قابلون للتأقلم، فهم يعتمدون على وسطاء، كمؤثّري وسائل التواصل الاجتماعي مثلًا، المقيمين في الداخل والمغتربين على حدّ سواء. يعمل مروّجو الدّعايات على ضبط آليات تجمع بين الوسائل البشرية والأدوات، كبرامج الروبوت، التي تلعب دور مراسلي النظام عبر الأنترنيت. على سبيل المثال، يثير المشهد الإعلامي المشتت في الداخل الإثيوبي الصحافيين ضدّ بعضهم البعض. ويبدو أنّ الجالية الإثيوبية المقيمة في الخارج قد وظّفت "تيليجرام" في الجهود الدعائية الداعمة لنظام "آبي". بينما الظاهر أنّ الجزء الأكبر من الدعاية الليبية قد انتشرت عبر المنصّات المفتوحة مثل "فيسبوك" و"تويتر"، إلّا أن بذور تلك الحملات الدعائية قد زُرعت مسبقًا في تطبيقات الدردشة قبل أن تنتقل إلى منصّات التواصل الاجتماعي المفتوحة.
وبذلك، فإنّ تمكين المواطنين في البيئات التي يسودها النزاع مهدّد بأن ينحرف عن مساره مجدّدًا. فبدلًا من توفير حماية يقلّ فيها التلوث الذي تسبّبه أيادي الأطراف الفاعلة للنظام بمصر، أو الأطراف السياسية المتنازعة في ليبيا، فإنّ مستقبل هذه التطبيقات قد بلغ منعطفًا حاسمًا – ففي الشأن المصري على سبيل المثال، يمكن طرح السؤال التالي: هل ستحتوي أجهزة الدعاية الخانقة، كالتي يملكها نظام السيسي، تطبيقات المراسلة المشفّرة (EMA)،أم أنّها ستصبح منصّات مغلقة ومحمية لتلقي الأخبار؟
ثمة إمكانية في أن تصير هذه التطبيقات ذات تأثير إيجابي. وهذا يزفّ لنا بشرى سارّة أخرى، ففي كلّ من ليبيا وإثيوبيا، حيث يتمتّع الناشطون بالقدرة على إضعاف دعاية النظام، عبر نشر أصواتهم حيث لا يمكن أن تغرقها الخوارزميات وبرامج الروبوت بسهولة. يَعتبر الناشطون، في كلا البلدين، تطبيقات المراسلة المشفّرة (EMA) وسيلة أكثر أمانًا للتواصل. اكتسب كلّ من "سيجنال" و"تيليجرام" شعبية كبيرة بين الناشطين، وهذا أمر محيّر نظرًا لمستويات التشفير المتباينة. زادت أهميّة "تيليجرام" خصوصًا بين الناشطين الذين يريدون تبادل المعلومات المحايدة وخلق فضاءات آمنة (نسبيًا) وبعيدة عن أعين النظام المتربّصة وآلاته الدعائيّة.
بلغْنا منعطفًا حاسمًا حيث يجب على شركات التكنولوجيا والمجتمع المدني وصنّاع السياسات والأكاديميين العمل معًا لمنع استغلال هذه المنصات التي تتمتع بخصوصية أكبر وبمزيد من الأمان من قبل الجهات الاستبدادية – التي ظلت استخداماتها الدعائية مختفية عن الأنظار لفترة من الزمن.
وعمومًا، من الضروري استثمار المزيد من الوقت والموارد في البحث وتطوير مقترحات بغرض الاستغلال السليم لتطبيقات المراسلة المشفّرة (EMA) في تلك البلدان – على سبيل المثال، التعاون مع صحفيين محليين من القارّة الإفريقية أطلقوا "صحفًا عبر واتساب". تعرّض التشفير لهجمات العديد من المقترحات السياسية حول العالم. إذ استحدثت مصر تشريعات تنتهك حقوق الإنسان الخاصة بمستخدي الإنترنت من خلال حظر استخدام الخدمات التي تعتمد على التشفير، تحت ذريعة حماية الأمن القومي.
عند تناول مسألة استغلال تطبيقات المراسلة المشفّرة (EMA)، من المهم للغاية مراعات السياقات الإقليمية المختلفة وعامل تجارب واحتياجات المدافعين عن حقوق الإنسان في البلدان غير الغربية – إذ تتزايد هذه الأهمية إذا أخدنا في الحسبان حقيقة أنّ الدعاية والمعلومات المضللة أكثر وأسرع إيذاءً في الدول التي تعاني من انقسامات سياسية وحروب أهلية. ينتشر كلاهما بكثرة في بلدان جنوب الكرة الأرضية، وليس في الغرب.
إنجا كريستينا تراوثيج (Inga Kristina)، باحثة أولى في مختبر أبحاث الدعاية (Propaganda Research Lab) بجامعة تكساس (UT) في أوستن. متحصّلة على درجة الدكتوراه من "كلية كينجز لندن" (King’s College London)، ركّزت فيها أعمالها على الشأن الليبي. ألكسندرا ويتلوك (Alexandra Whitlock)، باحثة جامعية في جامعة تكساس (UT). تعملان معًا على مشروع يشمل عدّة بلدان، يدرس الاستخدام السياسي المموه لتطبيقات الدردشة المشفرة مثل "واتساب" و"تيليجرام" و"سيجنال".