في قلب موريتانيا، حيث تشتد ضراوة التغيرات المناخية، يقاوم مزارعون شجعان للبقاء على قيد الحياة وسط ظروف بالغة الصعوبة. تسلط هذه القصة الضوء على رحلة محمد مولود، الذي هجر قريته بحثًا عن العمل وانتهى به المطاف مالكًا لمزرعة خضروات، ليجد نفسه في معركة شرسة مع نقص المياه المستمر والتراجع الحاد في إنتاج المزرعة. بينما يتقلص المنتج ويحد من دخله، يشاركنا محمد وآخرون ، قصص كفاحهم لإعالة أسرهم والحفاظ على مزارعهم. مع معضلة مياه متفاقمة وبدائل لا تكفي، يقف هؤلاء المزارعون على خط المواجهة مع التغيرات المناخية، متحدين الصعاب بأمل وإصرار لا يلين
قبل 11 عاما، نزح، محمد مولود 28 عاما من مسقط رأسه 450 كلم "من نواكشوط" وذلك بحثا عن فرصة عمل، فهو ترك خلفه أم وأخوات، بدون معيل، ليستقر بحثه في العمل بمزرعة للخضروات ، ويدور الزمن دورته ، و تعود ملكية المزرعة إليه بعد سنوات النشاط فيها كعامل بالقطعة ، لكن رياح المناخ ، جاءت بما لم يتوقع " محمد " إذ باتت المياه في انقطاع دائم ، وما يصل منها بجهد كبير، يتسبب في إتلاف المحاصيل واستحالة زرع الكثير من الخضروات، بحسب " محمد " ومضيفا : ليس بيدي حيلة، فلا عمل لي غير مزرعتي، ولن يكون بإمكاني تركها، بل مواصلة الكفاح من أجل البقاء
منتوج يتقلص ودخل محدود
لم تعد تنتج " مزرعة " محمد، بشمال نواكشوط ، غير" الخس و الكرافس و البقدونس والنعناع بكميات قليلة ، بعد تأثرها بالنقص الحاد في المياه" الصالحة ، مقارنة بالأعوام 2015 ـ 2018 والتي كانت تتوفر فيها عينات ، الجزر والبطاطا والطماطم ، و بدخل شهري يتراوح ما بين 60 ألف أوقية و 160 ألف أوقية،خلافا لما بين الأعوام 2020ـ 2023 حيث لم يتجاوز دخله الشهري فيهم 30 ألف أوقية موريتانية
على بعد أمتار قليلة من مزرعة " محمد ، تحاول " النانة " 55 عاما و منذ 3 سنوات استصلاح أرض زراعية، بعدما توفي زوجها ووجدت نفسها المعيل على " أبنائه منها ، غير أنها تقول : لقد تعبت في التنقل من أرض إلى أخرى كي استصلح أرض زراعية وأطعم منها أولادي، لكن الأمر صعب، فالمياه الصالحة للزراعة لا تتوفر هنا إلا ما ندر، ولا أحد بمقدوره الاستفادة منها%100 ورغم ذلك، مازلت صامدة على هذه الأرض حتى يصلني الماء وأتمكن من غرس أنواع النباتات الزراعية، و أطعم أبنائي الذين ينتظرون ما يأكلون
أزمة مياه
تشير بعض المعطيات غير الرسمية أن موريتانيا تستقبل في المتوسط 251 مليار مترا مكعبا من الأمطار سنويا، فيما تتراوح نسبة التبخر من 2.5 إلى 3 أمتار سنويا ، في الحين تصل القدرة التخزينية للسدود والحواجز إلى 5 مليارات متر مكعب سنويا و المقدرات المائية من 50 إلى 120 مليار متر مكعب
ووفقا لإحصاءات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2020 والذي استعرض أزمة المياه في الدول العربية، فان حصة الفرد الموريتاني سنويا من المياه تتجاوز 1700 متر مكعب ، لكن و بفعل عوامل عديدة كالتغير المناخي ستتناقص النسبة عام 2025 حتى تصل 667 مترا مكعبا،علما أن المزارعون بالضاحية الشمالية لنواكشوط، يعتمدون في نشاطاتهم الزراعية على المياه العذبة والتي بدأ المزارعون في استخدامها منذ السبعينات ولكنها اليوم باتت شحيحة،مشكلة بذلك أزمة حقيقية لدى معظم المدن والأرياف الموريتانية
بدائل لا تكفي
كي لا تتوقف مزارعهم عن العمل، ولمواجهة النقص الحاد في المياه، لجأ المزارعون إلى الطريقة التقليدية في توفير المياه وذلك من خلال حفر الآبار بعمق تتراوح ما بين 90 ـ 130 لكن عملية جلب الماء من البئر، لا تتم إلا عبر ربطها باللوح الشمسي والذي يسهل العملية من خلال الربط التقني
و بالرغم من ندرة مياه الآبار و مساعدتها في توفير جزء من المنتوج الزراعي ك ووسط الظروف المناخية المتغيرة إلا أن المزارع والعسكري السابق بركة 58 عاما ، يرى أن مياه الآبار مالحة و تتسبب دوما في إتلاف أغلب المحاصيل الزراعية وفي الآخر، تبقى كل البدائل غير كافية إلى عودة المياه " العذبة " على حد قوله
و يضيف المزارع" بركة " أنشأت مزرعتي في العام 2008 وقد تعبت من أجلها، لكنني اليوم أقف عاجزا عن فعلي شيء في وجه المناخ المتغير، ففعلا كنت قبل العام 2019 أنتج عينات مختلفة من الخضروات كالجزرـ اليقظين ـ الطماطم، و أما في الوقت الراهن فنشاطي الزراعي متوقف على أمثال الخس والبقدونس والكرافس، بالرغم من ما نستنزفه من جهود و نخسره في القيمة السوقية إذ تناقص دخلي الشهري ما انعكس سلبا على معاش العائلي
المزارع مزود للسوق الكبير
و فقا للمزارعين، فان " مزارع نواكشوط الشمالية " ظلت منذ العام 1985 والى العام 2018 مغذي رئيسي لسوق الخضروات الكبير " بنواكشوط " لكنهم اليوم و بفعل النقص الحاد في المياه ، تراجع بشكل كبير المنتوج الزراعي للمنطقة الزراعية بالضاحية الشمالية لنواكشوط منذ العام 2019 و هو واقع قلص من المداخيل الشهرية لمحمد وبركة واضر بالمحاولات المستميتة للنانة من أجل إنشاء مزرعة لإعالة أولادها اليتامى،و كثير من المزراعين الموريتانيين بشمال نواكشوط، بالرغم من كفاحهم من أجل البقاء في مزارع أخذت منهم الكثير و أعطتهم القليل عبر سنوات طوال.