الطلاق، وتنكّر أفراد عائلتها والمقرَّبين، كانا كَفيلين بوضع عائلة كاملة تحت رحمة الفَقر، ناهيك عن افتقارهم لموردٍ للرزق يكفيهم شر العَوز والحاجة.
على مدى السنتين الماضيتين، كان الصّراع اليومي لأحد النساء، وهي أم لأربعة أبناء أعمارهم بين 15 و 25 سنة، هو إيجاد مجرّد مأوى، أو سقف تعيش تحته مع عائلتها.وهذا ما دفع الأم وأبناءها مُكرهين، لخلع أَحَدِ أبواب البيوت المهجورة أو المُهمَلة، واتِّخاذه مأوىً لهم ومكان يبيتون فيه بأمان، منهكين من الفقر والعوز، ودون سند حقيقي.
الثورة لم تغير شيء في هذا الأفق المسدود، لكن عائدة، الأم ذات الأربع وأربعون عاماً واصلت طريقها هي وعائلتها، والمعاناة كانت رفيقة دربهم.
لم تعانِ عائدة فقط من قلّة ذات اليد والعون لها فحسب، بل أتت عدوانية محيطها لتزيد من معاناة هذه العائلة، ولتعمّق المشكلة أكثر، حتى وجدت نفسها يوماً، بين مطرقة الفقر، وسندان القانون، مُهدَّدةً بالطرد وبقوة القانون، من المنزل الذي استولت عليه بدافع الحاجة دون وجه حق.
كان هذا حال عائدة عندما التقتها المخرجة السينمائية هند بوجمعة، والتي رأت في حكاية هذه العائلة، ملحمة واقعية لم ينجبها خيال إنسان.
بهذا الشكل أصبحت حياة عائدة الكعبي، محور الفيلم الوثائقي "يا من عاش" أو "غدا يوم آخر"، وهو أول فيلم وثائقي طويل في حياة المخرجة هند بوجمعة.
رُغم تتويج الفيلم بعدد من الجوائز الدولية، كجائزة أفضل مخرج للأفلام الوثائقية في مهرجان دبي السينمائي 2012، وحلوله ضمن الاختيارات الرسمية في مهرجان فينيسيا السينمائي، إلا أن التغيير الذي طرأ على حياة عائدة، لم يكن بفضل السينما، بل كان بفضل المجتمع المدني ومؤسساته الفاعلة.
حلقة الوصل كانت منتجة الفيلم درة بوشوشة، التي بادرت بطرح حالة عائدة على جمعية "بيتي"، الجمعية المتخصِّصة في العناية بالنساء فاقدات السند وضحايا العنف منهن.
أُسِّسَت جمعية " بيتي" من قبل الناشطة النسوية سناء بن عاشور في نيسان / ابريل من عام 2012، وتدير هذه الجمعية مركزاً لإيواء النساء فاقدات المأوى، وتوفر لهنَّ الرعاية الصحية، والنفسية، بهدف تأهيلهن وإعادة دَمجهنَّ في المجتمع.
تعمل الجمعية منذ تأسيسها على مكافحة التمييز، ومعالجة الحالة الاقتصادية والاجتماعية الهشّة لدَى النساء، وتعتبر مساندة النساء من ضحايا العنف هي المهمة الأساسية لهذه الجمعية، ومحور اهتمامها.
تقول عائدة: " لقد منحتني الجمعية ما لم يمنحني إيّاه أحد، نَظَّفَتني، أَزالت عني الصَّدأ، عندما ذهبت إليهم، كُنت امرأةً بلا سند، بلا مأوى، تُعيلُ أربعة َأطفال، وفي حالٍ يُرثى له، كُنت أَجُرُّ رَصيداً ثقيلاً من عُقوباتٍ قانونية تَضَعني السجن، هناك وَجدت آذاناً صاغية وقلوباً مفتوحة، مَكَّنتني من الضَّعف الذي كبَّلني لسنوات عِدَّة، ثم منحتني القوة، هكذا استطعت أن أَصبِرَ وأُواصِل المقاومة"
تُمثِّل عائدة الكعبي عينة من المستفيدين من المنظومة التي أنشأتها الجمعية، وهي واحدة من 350 امرأة تكفّلت "بيتي" بهنّ منذ نشأتها، وأشرفت على حالاتهن، غادر بعضهنَّ الملجأ بعد أشهر قليلة، إِثر نجاحِهنَّ في إعادة بناء حياةٍ كريمة، وقُدرتهم على تحقيقِ استقلالهِنَّ المادي.
في مكان آخر، وفي العاصمة تونس، تم افتتاح مركز "سيدي علي عزوز" يوم 5 تشرين أول / أكتوبر الفائت، والذي يتسع لثلاثين امرأة مع أطفالهن، قبل أن يبدأ في استقبال أولى نزيلاته في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر، وقد حَلّ مركز سيدي علي عزوز مكان مكرز ميتيال فيل الذي يقع في العاصمة أيضاً، والذي لم يكن يتسع لأكثر من 8 نزلاء.
يوفّر المركز الأُطُر القانونية، والرعاية الصّحية اللازمة لحماية النساء من تبعاتِ معاناتهن، ومن ثم التأهيل النفسي والمهني لهن، من خلالِ ورشاتِ تدريب في مختلف المجالات المتعلقة بحياتهن، مثل الطبخ، الصناعات التقليدية، الأمومة والعناية بالأطفال، وحتى تقنيات الإتصال والفنون الجميلة، إضافة الى تأمينه المأوى والغذاء المناسبين لنزلائه.
تذكر وفاء فراوس، المسؤولة عن الإقامة بمركز "سيدي علي عزوز"، قصة أسماء الفتاة القاصر كمثال.
قامت أسماء بالهرب من بيت عائلتها بعد تعرُّضها للعنف الشديد من قبل والديها، فغَدت مشرَّدةً نتيجة العنف الأُسري، ولاحقاً تم إيقافها من قبل شرطة الآداب برفقة صديقها الذي لجأت إليه، لكن شرطة الآداب فَضَّلت توجيهها نحو جمعية "بيتي"، ووافقت الجمعية على استقبال أسماء لديها، وبقيت الفتاة في مركز الإيواء طيلة سبعة أشهر، عادت بعدها إلى أهلها، بعد قيام الجمعية بدور الوساطة مع الأهل، وتوعية العائلة بالخطأ المرتكب بحق ابنتهم، كما حظيت أسماء بالمساعدة اللازمة في الجانب القانوني أيضاً، وجنَّبت بذلك صديقها التبعات القانونية المترتبة على القيام بعلاقة مع قاصر، وبمساعدة متخصصين في علم النفس والاجتماع، تمّكنت أسماء من إيجاد مشروع حياة متكامل، على الصعيدين الأسري والمهني، وبمعنى آخر، بدأت حياة جديدة تعيشها أسماء بفضل هذه الجمعية.
أما في حالة إيناس، لم تكن العودة لحضن عائلتها ضمن الخيارات الممكنة، فهي يتيمة الأم، كما أنها الابنة الوحيدة لأبيها المسن والعاجز، خسرت هذه العائلة منزلها في قضية إرث، وتم طردهم من المنزل، ولم تستطع عندها أسماء ذات السبع وثلاثون عاماً، وبالرغم من دراستها للحقوق، أن تسعف نفسها ووالدها في هذا الظرف الصعب.
فقدت إيناس الحيلة في إيجاد السبيل لحل مشكلتها، ولم تملك سوى ترك أبيها في مركز خاص بفاقدي المأوى، ولجأت إلى جمعية "بيتي". غير أن مكوثها في الملجأ لم يتجاوز أربعة أشهر، فقد كانت كافية لينجح فريق الجمعية في مساعدتها على إيجاد عمل في شركة للتسويق عبر الهاتف، مما أتاح لها القدرة بدء حياتها من جديد والعناية بوالدها، والإدِّخار لشراء منزل في المستقبل.
تقول يسرى فرواس: "إيناس امرأة متعلمة، لها هدف مُحدد وطريق واضح، لذا كانت إعادة دَمجها في المجتمع مهمة سهلة نسبياً، لكننا عادة ما نجد صعوبات أكثر مع نساء أقل منها سنّاً وثقافة، حيث يجب علينا أولاً أن نُّحدِّد معهن ما يرغبون القيام به في حياتهن، ثم مرافقتهن في طريق تحقيق ما يطمحن إليه، ولا يمكن لنا تركهنّ قبل بلوغهنّ هدفهنّ المحدد".
تعتني يسرى اليوم وبمساعدة زميلاتها، بخمس نساء وثلاثة أطفال، في الجمعية التي تُموَّل وبشكل أساسي من قبل منظمة أوكسفام Oxfam وصندوق الأمم المتحدة للسكان، إضافةً إلى بعض الدول الأوروبية، مثل سويسرا، وهولندا.
لكن ماذا عن الدولة؟
تقول يسرى: "نحن نعمل في تنسيق مستمر مع أجهزة الدولة الأمنية والقضائية خاصةً، إضافةً إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، لكننا نعوِّل بشكل أكبر على شُرَكائِنا من مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني، مثل جمعية النساء الديمقراطيات، جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان."
لم يَبلغ الجمعية أي خبر عن أسماء، بعد مغادرتها لمركز الإيواء حتى الآن، وهذا أمر جيد كما تقول يسرى: "تعود النزيلات غالباً عندما تسوء أحوالهن من جديد، وطالما لم تعد أسماء، إذاً هي لازالت قادرة على العناية بنفسها".
أمّا إيناس تعود أحياناً، رغم تحسن وضعيتها، بغرض الزيارة الودية، وإلقاء التحية خاصة في أيام الأعياد.
أما عايدة، فهي تعمل إلى الآن في مركز الإيواء، تعتني بنظافة المكان، وتقضي وقت فراغها مع النزيلات الأخريات في المركز، ومع مرور الوقت أصبحت عايدة قُبلة النزيلات كلما احتجن إلى نصيحةٍ صادقة أو أُذنٍ صاغية.
تقول عايدة: "أنا لَستُ مُرشدةً اجتماعية، لكني قادرة على تذكيرهم دوماً بقيمتهم في المجتمع، وأنهم لازالوا قادرين على التواجد بشكل فاعل، وليس هذا بالأمر السهل، خاصةً عندما تُخاطب إنساناً فقد المأوى، ويرى في نفسه عبئاً على مجتمعه، نعم يمكنني أن أفهم وأشعر ما يمرون به تماماً، لقد مررت بدوري بكل هذا، مما جعلني قادرة على الإحساس بتجربتهم، وهذا ما لا يمكن لك تعلمه في أي مكان آخر، الإحساس بالآخر شيء لا يمكن تدريسه."
وماذا عن فاعلية هذه "الاستشارات" ومدى إقبال النسوة عليها؟
"أصبحن يستشرنني في كل شيء، حتى أنهم يُطلِقون عليَّ لقب غوغل Google (تقول ضاحكة)، أحياناً يخطر لي، أنه كان من الممكن أن أصبح طبيبة نفسية، لو واصلت دراستي ربما."
رُغم أنَّ الحُزن والشَّجن هو ما يشوب صوت عايدة أثناء حديثها، إلا أنَّ الابتسامة الحاضرة دوماً، تَدُّل بشكل صارخ، على أهمية ما قامت به هذه الجمعية في حياتها، وما كان لمؤسسات المجتمع المدني من دور فاعل في تغيير مجرى حياة الكثيرين، وإعادتهم لمكانهم الحقيقي في مجتمعاتهم.