هم اللاعب رقم ١٢، ولهم تأثير كبير على مجرى ونتائج المباريات. مجموعات التشجيع "ألتراس"، عشّاق الساحرة المستديرة، من ملاعب كرة القدم، إلى الشوارع، لقيادة شعوبهم في ثوراتها على أنظمتهم الاستبدادية.
لا يختلف اثنان على أن تونس كانت الدولة العربية الأولى التي انتشرت فيها ثقافة "الألتراس"، إلا أن أول ظهور لها في تونس بقي محل خلاف بين مشجعي النادي الإفريقي والترجي الرياضي التونسي، كما هو حال سليم وفاضل، شابان من تونس العاصمة، اختلفا في هذه النقطة أيضا رغم صداقتهما.
يقول أعضاء مجموعة الألتراس لفريق النادي الأفريقي، "أفريكان وينرز"، إنها ظهرت عام 1995، بينما ينفي ذلك منتسبو مجموعة ألتراس "مكشخين"، مشجعي فريق الترجي التونسي، بالقول: أنهم أول من بدأ بتأسيس ألتراس في العالم العربي سنة 2002. ويستند سليم في محاجّته على قواعد مجموعات الألتراس في العالم، والقاضية بأن كل مجموعة تغير تسميتها تعتبر مجموعة جديدة والسابقة لاغية. وكما يعتبر "الباش" (اللافتة التي تحمل شعار المجموعة) محدداً لكينونة هذه المجموعات. يقول مشجع للترجي الرياضي "لا يمكن الحديث عن وجود ألتراس ما لم يعلًق الباش و"افريكان وينرز" لم تعلق باش عليه اسمها قبل سنة 2003".
"متيمون بحب الترجي، لا تهمهم النتيجة ولا الحصيلة، يشجعون فريقهم طيلة 90 دقيقة دون توقف"
سنة 1995 أسست مجموعة مكونة من حوالي 50 شخصاً، من محبي النادي الافريقي، مجموعة "كورفا نور" (كلمة من أصل إيطالي تعني المنعرج الشمالي). ينتمي أغلب أعضاء هذه المجموعة إلى عائلات برجوازية، ثم التحق بها أبناء الأحياء الشعبية ومحبو الفريق، من كافة الفئات والطبقات الاجتماعية، وتواصل نشاطها حتى سنة 2001، حيث تم اعتقال 12 من منتسبيها خلال أحد المباريات، فتفرق أعضاء المجموعة. ولكنهم تجمّعوا ثانيةً، في أكتوبر سنة 2003، وقاموا بتأسيس مجموعة جديدة أطلقوا عليها تسمية "أفريكان وينرز".
تكونت في الأثناء مجموعات أخرى على غرار مجموعة "بريقاد غوج" لمشجعي النادي الرياضي الساحلي، وألترس "المكشخين" التي كونتها مجموعة من "المتيمين بحب الترجي، لا تهمهم النتيجة ولا الحصيلة، يشجعون فريقهم طيلة 90 دقيقة دون توقف، ومهما كانت النتيجة سلبية او ايجابية" حسبما عرّفها سليم.
شرارة الخلافات
منذ نشأة الألتراس، ظهرت في الملاعب التونسية، مناوشات واضطرابات بين أعضاء هذه المجموعات والعناصر الأمنية المتواجدة في الملاعب. وراحوا يرفعون شعارات ضد قمع البوليس، وضد تكميم الأفواه إلى أن صار لتحركاتهم أبعاد ثورية سياسية.
ويجمع أعضاء الألتراس، بأن الملاعب كانت، في فترة ما، المتنفس الوحيد لهم؛ فقد كانوا لا يخشون ترديد أغان ثورية، ورفع شعارات سياسية. إلا أن ذلك لم يدم طويلا، فقُمِعت هذه المجموعات، وضيقت السلطات الخناق عليهم بعد أن توجست خوفا من تأثيرهم القوي، خاصة مع تبني البعض لشعارات ماركسية، ومناداتهم بالحرية ومناهضة الظلم والقمع، ومعاداتهم للنظام والأمن؛ وذلك على اثر انخراط شبان يحملون أفكارا يسارية وقومية، عملوا على إضفاء أبعاد سياسية على الأغاني والشعارات المستخدمة خلال المباريات.
ثم ازداد التضيق شيئا فشيئا، إلى أن بلغ ذروته سنة 2010، السنة التي تقرر فيها حل مجموعات الألتراس بعد أحداث شغب كبيرة شهدتها مباراة الترجي وحمام الأنف، بملعب المنزه في 8 فبراير 2010.
الشرارة الأولى للثورة
"كنا نتعرض لإهانات عند الدخول وداخل الملعب، تصل إلى الضرب أحيانا"
في 2010 بلغت يد القمع والظلم، لنظام بن علي، ذروتها؛ وطالت هؤلاء الشباب الذين كانوا يعتقدون أن مدرجات الملاعب هي المنفذ الوحيد الذي يعبّرون فيه بحرية.
فانطلقت أول شرارات الثورة التونسية من الملاعب، فكانت كل المباريات تشهد أحداث عنف وفوضى بين الألتراس والشرطة، وقد أصرت جماهير الملاعب على محاربة القمع، والوقوف وقفة رجل واحد ضد غطرسة الأمن. ظهر ذلك جليا أثناء مباراة 8 ابريل 2010. يقول "عماد دغيج"، أحد مشجعي الترجي، في حديثه عن هذه المباراة: "الحجم الحقيقي لقوات الشرط، ظهر يومها. تبين أنهم جبناء، وسقط عدد كبير من الجرحى في صفوف أعوان الأمن" مضيفا: "لم يكن ما حدث يومها مبرمجا، لكن لو لم يحدث ذلك في تلك المقابلة، كان سيحدث في المقابلة الموالية. كما ان نتيجة اللقاء لم يكن لها أي علاقة بما حدث. كان يوما عظيما، حتى أن رئيس نادي حمام الأنف قال: إن الغضب الذي رأيته يومها لم أره من قبل وكانت تلك الشرارة الأولى للثورة التونسية".
يؤيد "فاضل"، عضو سابق في مجموعة "أفريكان وينرز"، اعتقاد أن الثورة بدأت من الملاعب؛ وأكد أن مجموعته كانت تستمتع بأجواء الملاعب وتشجع فريقها بحرية إلى غاية سنة 2008، حين بدأت تظهر بعض المناوشات بين المجموعات وعناصر الشرطة، بسبب الرسائل الثورية الحانقة على النظام، والتي يتم تمريرها في اللافتات والأغاني.
سنة 2009 تطور الوضع وصارت العناصر الأمنية تمنع المشجعين من الدخول إلى الملاعب أو إدخال الطبلة ومعدات التشجيع، فيضطر المشجعون إلى ادخال المشاعل -التي يطلق عليها اسم شماريخ في شمال افريقيا- خلسة واشعالها، ومن ثم إلقائها على عناصر الشرطة، إذا ما حاولوا منعهم. ونظِّم على إثر، ذلك حملات اعتقالات عشوائية، كان من بين ضحاياها "فاضل"، الذي اعتقل مرتين بسببها.
ومن جهته قال "دغيج" مفسرا أسباب ما حدث في مباراة 8 أبريل "كنا نعيش مضايقات كبيرة جدا بصفتنا مشجعي "الترجي الرياضي"، كانوا يمنعوننا من إدخال أي شيء يدل على هوية المجموعة أو الفريق، وكنا نتعرض لإهانات عند الدخول وحتى داخل الملعب، تصل إلى الضرب أحيانا".
بعد أحداث 8 أبريل، فهم الرئيس المخلوع "زين العابدين بن علي"، أن هذه الجماهير لن تهدأ؛ وأحسّ بخطورتها وقدرتها على زعزعة النظام، فاجتمع بهم وحاول استمالتهم إلى صفه وسألهم عن مطالبهم، لكن هذه المحاولات بائت بالفشل. كما فشلت الحكومة في السيطرة على الحشود الغاضبة الثائرة وكان الثمن إسقاطها واندلاع الثورة بعد أشهر من حل الألتراس.
منذ الساعات الأولى لاندلاع الثورة التي أطاحت برموز الاستبداد في 2011، تصدرت مجموعات الألتراس الصفوف الأمامية في المظاهرات، وقاد أعضاؤها البارزون مظاهرات كبرى في الأحياء الشعبية، إذ حملوا أعلامهم ولافتاتهم ونقلوا شعاراتهم من الملاعب إلى الشوارع. وبشكل ملحوظ ساهم دخولهم في تلك الهبة الشعبية في إسقاط النظام.
رغبة جامحة في التغيير
"نستعمل العنف ضد عناصر الأمن فقط للدفاع عن المجموعة وعن شرفها (الباش)"
لم تكن رؤية أفراد من الألتراس في المظاهرات بالأمر الغريب، نظرا إلى أن هذه المجموعات نشأت في أحياء شعبية عانى سكانها طويلا من التهميش خلال فترة حكم بن علي. بالإضافة إلى أنهم مزيج متنوع من المثقفين والدارسين والباحثين وأبناء كافة الطبقات، مبادئهم لا تسمح بالتغاضي عن أحداث كبرى في وطنهم، تحركهم العاطفة ورغبتهم الجامحة في التغيير الإيجابي.
وكما أقر كوستاف لوبون، في كتابه "سيكولوجية الجماهير" فإن المشاعر والأفكار تتوحد بين جميع الأفراد داخل الحشود وتأخذ نفس الاتجاه.
في حين يرى البعض فقط خاصية العنف التي عرفت بها مجموعات الألتراس، وينتقدونها للسبب ذاته، إلا أن سليم يؤكد أن مجموعته "ألتراس المكشخين" تكره العنف، "نستعمل العنف ضد عناصر الأمن فقط للدفاع عن المجموعة وعن شرفها (الباش)"، مضيفا أن الصورة الخاطئة التي روجتها عنهم وسائل الإعلام، خلقت أجواء من الخوف وعدم الثقة لدى الأهالي، وصارت العائلات تمنع أبناءها من ارتياد الملاعب والانخراط في هذه المجموعات. هذا تحديدا ما يفسر القطيعة التي ميزت العلاقات بين الألتراس ووسائل الاعلام، وقد يفسر أيضا امتناع "سليم" و"فاضل" عن كشف هويتهما، لأنهما بذلك يكونان قد خالفا قواعد المجموعة.
وبالتمعن في نظريات الحشود، يمكن فهم ظاهرة العنف داخل الملاعب، حيث يذوب الفرد داخل الجماعة وتختفي شخصيته الواعية، ويتم تشكيل كائن واحد وعقل جمعي على قدر ليس بكبير من الوعي. كما أن الحشد يمكّن الأفراد من اكتساب قوة، تجعلهم يقترفون أفعالا وسلوكيات عدوانية عنيفة، لا تعبر بالضرورة عن شخصياتهم.
رغم الصعوبات، لا بد من الاقرار بأن من بين مكاسب الثورة التونسية تحرر جماهير الساحرة المستديرة من قمع الأمن وبطشه، وبقائها محافظة على مبادئها وشعاراتها المنادية بالحرية.