لا يزال عشرات القاصرين والقاصرات من أولاد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية في السجون الليبية على الرغم من مطالبة أسرهم بعودتهم.
في شباط/فبراير ٢٠١٦، نفذت طائرات حربية أميركية غارات على قاعدة عسكرية تابعة لما يسمى "تنظيم الدولة الإسلامية" في ضواحي مدينة صبراتة غرب ليبيا، مستهدفة الزعيم التونسي في التنظيم "نور الدين شوشان"، لعلاقته بهجومين إرهابيين استهدفا تونس عام ٢٠١٥، أحدهما في متحف باردو في العاصمة والآخر في منتجع سياحي في سوسة. وكانت الأجهزة الأمنية التونسية أشارت إلى أنّ عناصر داعش الذين يقفون وراء الهجومين تلقوا تدريباتهم على الأراضي الليبية.
وفقا لمسؤولين محليين، إنّ الغارة التي نفذت بالقرب من صبراتة، على بعد حوالي 130 كلم من الحدود التونسية، خلّفت ٤٠ قتيلاً، بمن فيهم عدد من التونسيين المشتبه بانتمائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية. وقد تم العثور على عدد من الأسلحة الرشاشة والقذائف الصاروخية تحت أنقاض معسكر التدريب وفقا لبيان صادر عن السلطات المحلية.
في أعقاب الهجوم الأميركي، باشرت السلطات التونسية، وبالتنسيق مع السلطات الليبية، في إجراء التحقيقات في مقتل المواطنين التونسيين. وتم العثور على الطفل اليتيم "تميم الجندوبي البالغ من العمر سنة واحدة في موقع الغارة. تم احتجاز الطفل الذي قُتل والداه، اللذان كانا ينتميان إلى داعش، إثر الغارة الجوية. كما تم احتجاز عدد من أطفال المقاتلين التونسيين المنتمين لداعش ممن نجوا من الغارة الأميركية.
حينها بدأ رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان "مصطفى عبد الكبير" بمتابعة وضع هؤلاء الأطفال عن كثب. وبحسب تقديرات "عبد الكبير" فإنّ: "70% من الأطفال المحتجزين ولدوا في ليبيا، وتحديدا في ساحة المعركة. لم يذهبوا قط إلى تونس ولم يلتقوا بأقربائهم".
يقول الناشط في حقوق الإنسان، أنّه ثمة ٣٩ قاصرا تونسيا على الأقل محتجزين في السجون الليبية، معظمهم في سجن "معيتيقة" في طرابلس والبعض الآخر في مصراتة وقلّة منهم في سجن صبراتة. وتابع عبد الكبير أنّ ٢٦ طفلا موجودون مع والداتهم بينما الآخرون خسروا كلا والديهم أثناء القتال في صفوف داعش. تتراوح أعمار الأطفال بين سنتين و١٦ عاما، ولكن الأغلبية في سن مابين ٥ و١٢ عاما.
يقول "عبد الكبير" الذي يقود حملة لإعادة الأطفال إلى الوطن منذ عام ٢٠١٦ في تونس وليبيا: "مكان هؤلاء الأطفال في المدرسة ومنزل العائلة والملعب وليس في السجن".
أبدت النائبة "خولة بن عائشة" اهتماما كبيرا بموضوع الأطفال التونسيين المحتجزين في مناطق النزاع، بعد ان تواصلت بها جمعية إنقاذ التونسيين العالقين بالخارج، وهي منظمة غير حكومية تعنى بالعودة الآمنة للأسر والأطفال العالقين في النزاعات في الخارج.
ومن خلال الجمعية، ناشدت عائلات الأطفال العالقين في ليبيا البرلمانية التونسية، والتي تشغل مقعد عضو في اللجنة البرلمانية للتونسيين المقيمين في الخارج، لكي تقوم اللجنة بدورها، بدعوت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات سريعة لعودة الأطفال إلى وطنهم.
وفي معرض التفكير في الضرورة الملحة لإعادة الأطفال إلى ذويهم في أقرب وقت ممكن وإعادة إدماجهم، تشرح النائبة أنّ: "هؤلاء الأطفال لم يعرفوا سوى الحرب والسجن وقد حرموا من أبسط الحقوق. برأيي، كلّ يوم يمر دون إعادتهم يشكل فرصة ضائعة لإعطائهم حياة طبيعية".
حوالي ٢٠٠ طفل و١٠٠امرأة من الجنسية التونسية محتجزون في السجون الليبية والسورية والعراقية بتهمة الانتماء إلى داعش
إنّ السجون في ليبيا في حالة يرثى لها. في هذا الخصوص، أشار تقرير أعدّته هيومن رايتس ووتش في شباط/ فبراير، حول ظروف الاعتقال في ليبيا، إلى أنّ المحتجزون يعيشون "في زنزانات مكتظة تعاني من نقص حاد في الغذاء والملابس والأدوية". هناك، تتولى السجون بيع الطعام لكن بأسعار باهظة. استشهد التقرير برواية عائلتين في تونس قالت لهم الأمهات المحتجزات أنّ النساء والأطفال تعرضوا للضرب على أيدي المحققين في سجن الجوية في مصراتة وأنّ "حالة بعض السجناء، بمن فيهم أطفال، قد تدهورت للغاية إلى حدّ التحدث عن رغبتهم بقتل أنفسهم".
ومع استمرار القتال في طرابلس، تزداد الأوضاع في السجون سوءا، بحسب ما قالته لـ"زينيت" الباحثة البارزة في شؤون الإرهاب ومكافحة الإرهاب في هيومن رايتس ووتش، والتي أعدّت التقرير المذكور: "ليتا تايلر". تقول "تايلر" أنّ الأسر التونسية تشعر بقلق بالغ من احتمال إلحاق المزيد من الأذى بأفراد عائلاتهم نتيجة اشتداد القتال في ليبيا. كما أضافت أنّ ازدياد العنف في العاصمة الليبية يشكل "صدمة إضافية جديدة تزيد من حدّة المأساة التي يعاني منها أساسا الأطفال المحتجزون" خاصة أنّأنّ معظمهم موجودون بالقرب من خطوط التماس الأمامية في سجن معيتيقة في طرابلس.
وقالت خبيرة مكافحة الإرهاب في تقريرها: "إنّ زجّ هؤلاء الأشخاص في المخيمات والسجون الأجنبية من دون تهم يزيد من معاناتهم ويساهم بتأجيج المظلومية لديهم".
وفي حديث مع هيومن رايتس ووتش، قال مسؤولون في وزارة شؤون المرأة والطفل في تونس أنّ الأمر لا يقتصر على ليبيا فحسب، بل ثمة حوالي ٢٠٠ طفل و١٠٠ امراة من الجنسية التونسية محتجزون في السجون الليبية والسورية والعراقية. وفي حين قام بعض عناصر التنظيم بإحضار أطفالهم معهم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة ما يسمى "تنظيم الدولة الإسلامية"، إلا أنّ معظم الأطفال ولدوا في تلك المناطق.
قدّرت السلطات التونسية عدد التونسيين الذين غادروا البلاد للانضمام إلى الجماعات الجهادية بثلاثة آلاف شخص
في تونس، معدل المواطنين الذين انضموا إلى تنظيم الدولة الإسلامية في الخارج نسبة إلى عدد السكان هي من الأعلى بالعالم. بينما تقدّر السلطات التونسية عدد التونسيين الذين غادروا البلاد للانضمام إلى الجماعات الجهادية بثلاثة آلاف شخص، إلا أنّ مصادر أخرى تفيد أنّ العدد يصل إلى أكثر من ٦٠٠٠ شخص بينهم ١٠٠٠ امرأة، ويقاتل أكثر من ١٥٠٠ شخص منهم في ليبيا. بينما سعت الدول الأخرى إلى إعادة أطفال عناصر الدولة الإسلامية إلى بلادهم، لا يبدو أن تونس قد بذلت الكثير من الجهد على هذا الصعيد.
منذ شهر نيسان/ أبريل ٢٠١٧، وبعد ضغوط مورست من الجانب الليبي من جهة والأسر في تونس والمواطنين المعنيين من جهة أخرى، أرسلت الحكومة التونسية ثلاثة وفود إلى ليبيا. أفضت المفاوضات إلى إعادة الطفل "تميم" في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٧ وطفلين آخرين في نهاية عام ٢٠١٨ إلى حضن الوطن.
وقد أطلق سراح تميم الذي كان محتجزا في سجن معيتيقة الواقع تحت سيطرة قوة الردع الخاصة الاسلامية المتشددة، بعد ذهاب جدّه لأمه، فوزي الطرابلسي، إلى ليبيا أربع مرات محاولا استرجاع حفيده.
حتى الآن لم تتم إعادة أي طفل آخر إلى تونس. على الرغم من دخول مسؤولين في حكومة الوفاق الوطني في طرابلس في مفاوضات مع السلطات التونسية، لا زال التقدم بطيء جدا من ناحية إعادة هؤلاء الأطفال إلى وطنهم.
تشرح البرلمانية "بن عائشة"، الناشطة في إعادة أطفال عناصر التنظيم التونسيين إلى بلادهم، أنّه ثمة عقبة أساسية تفرضها السلطات التونسية من خلال سياستها المتمثلة بعدم التعامل مع الميليشيات الليبية التي تحتجز الأطفال لأن ذلك يعني الإعتراف بشرعيتها. كما أنّ التفاوض مع هذه الميليشيات يخلق مشكلة دبلوماسية، بحيث أنّه لا يتعين على تونس التفاوض إلا مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا.
هددت قوة الردع الخاصة بإطلاق سراح المحتجزين في الشارع لعدم قدرتها تحمل العبئ المالي لإبقائهم في السجن.
بينما تتنازع حكومتان للحصول على الشرعية في ليبيا، تسيطر الجماعات المسلحة والميليشيات على مراكز الاعتقال حيث يتم احتجاز النساء والأطفال.
وتقول النائبة التونسية أنّ "المشكلة أنّ حكومة طرابلس لا تسيطر على هذه المنشآت وبالتالي لا يمكنها التدخل. شخصيا، أعتقد أنّ مشكلة الأطفال في السجون الليبية تشكل مسألة ملحة. ينبغي على حكومتنا التدخل مع سائر الجهات لضمان إعادتهم إلى وطنهم آمنين".
من الجانب الليبي، طالبت قوة الردع الخاصة تونس بالتزام رسمي لاستعادة مواطنيها ومعالجة هذا الموضوع بالكامل، مقابل إطلاق سراح النساء والأطفال المحتجزين في سجن معيتيقة.
عقدت الميليشيات عدد من المؤتمرات الصحفية دعت فيها تونس إلى اتخاذ التدابير المناسبة لاستعادة الأطفال. وحسب ما ورد، هددت بإطلاق سراح الأطفال على الطرقات ملقية اللوم على السلطات التونسية في عدم عودتهم إلى وطنهم.
خلال شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، قام وفد تونسي الأخير إلى ليبيا بزيارة فرع الهلال الأحمر الليبي في مصراتة لأخذ عينات الحمض النووي لستة أيتام من أجل التحقيق في هويتهم قبل عودتهم إلى تونس. أثبتت اختبارات الحمض النووي أنّ هؤلاء الأطفال ينتمون لعائلات تونسية. ثمّ اتفق المسؤولون التونسيون على نقل الأطفال اليتامى إلى تونس بحلول منتصف شباط/ فبراير، لكن ذلك لم يحدث.
شددت "تايلر" على أنّ مسألة إعادة الدولة مواطنيها إلى ديارهم أمر "ممكن تماما" مهما كان الأمر معقدا، مستشهدة بعدد من الدول التي قامت بإعادة أطفال مقاتلي الدولة الإسلامية الذين كانوا محتجزين في سجون ليبيا وسوريا والعراق.
ترغب ليبيا بإعادة جميع المحتجزين بينما تتردد الحكومة التونسية بإعادة النساء منهم لدواعي أمنية.
وقال كبير الباحثين في هيومن رايتس ووتش أنّه "من غير المعقول أن تستمر السلطات التونسية بالمماطلة في إحضار هؤلاء الأطفال إلى ديارهم. جلّ ما ينقص العملية، هو الإرادة السياسية".
وفقا لتقارير الإعلام المحلي، من بين المشاكل الرئيسية تبرز مسألة استعداد تونس لإعادة الأطفال فقط، بينما ترغب ليبيا في عودة جميع المحتجزين. إنّ تردد الحكومة التونسية في إعادة النساء يعود سببه لمخاوف أمنية متعلقة بزعزعة السلم الأهلي.
بالنسبة للنائبة "بن عائشة"، لا ينبغي أن تشكل مسألة الأمهات مشكلة، لأنه إن كانت الحكومة التونسية ترى فيهن خطرا أمنيا فبإمكانها التحقيق معهن ومراقبتهن أو إعطائهن محاكمة عادلة عند اعادتهن إلى الوطن. في كلا الحالتين، يمكن أيضا التحقيق معهن في ليبيا، وإذا لزم الأمر، محاكمتهن على الأراضي الليبية في حال قررت السلطات الليبية القيام بذلك. لكن الأمهات، فيرفضن الانفصال عن أطفالهن.
تعتقد النائبة عن حزب مشروع تونس العلماني "خولة بن عائشة" أنّ أولى الأولويات تتمثل في إعادة الأطفال إلى ديارهم، حتى لو كان ذلك يعني إزالة الحضانة من الأم وإعطاء الأطفال لأقاربهم في تونس. وتقول "بن عائشة": "لم يختر هؤلاء الأطفال ما فعله أهلهم. لم يختاروا أن يولدوا على ساحات المعارك أو في السجن. على الحكومة أن تبذل كل ما بوسعها لإخراجهم من ذلك المكان. من المؤلم حقا أن تستغرق اجراءات إعادتهم إلى الوطن هذا الكم من الوقت".
مع ذلك، لاحظ رئيس مرصد حقوق الإنسان أن النساء يخشين من الوقوع في طي النسيان في حال اعادة أطفالهن. وشرح أنّ بعض الأمهات من بين اللواتي تحدث إليهن قلن إما أنّهن أجبرن من أزواجهن أو أنهن لم يعلمن بانتماء أزواجهن إلى داعش.
يقول الناشطون في مجال حقوق الإنسان أنّه ينبغي إعادة الأطفال التونسيين مع أمهاتهم حتى لو تم سجن الأمهات عند عودتهن.
انتقد "عبد الكبير" طريقة التعامل مع هذا الملف الحساس من قبل الجانبين التونسي والليبي؛ معربا عن أسفه لعدم الاهتمام بما ينبغي أن يكون "قضية إنسانية" قائلا: "على الرغم من أنّ الموضوع يتعلق بأطفال قاصرين، إلا أنّ الموضوع بات موضعاً للتجاذبات السياسية". وقد حذر الناشطون السياسيون أنّ المشكلة تزداد خطورة بحيث أنّه حين يكبر هؤلاء الأطفال سوف يشكلون خطرا فعليا على الأمن. وتساءل عبد الكبير أنّه "في حال فشلت السلطات التونسية في معالجة محنة هؤلاء الأطفال المحتجزين وإعادتهم إلى الوطن قريبا، الذي سيحدث أننا سنرى جيلا آخر من الإرهابيين".