الكاتب وعالم السياسة البريطاني الإسرائيلي، ديفيد رنان، درس لعدد من السنين موقف المسلمين في ألمانيا من معاداة السامية. في هذه المقابلة، يشرح الجذور المختلفة لها في أوروبا وفي الشرق الأوسط، كما يقترح انشاء منهج تعليمي من مسارين لمواجهة المشكلة.
زينيت: لقد قمت بدراسة ظاهرة معاداة السامية لفترة طويلة، ما هو السبب التاريخي لهذه الظاهرة في اوروبا؟
ديفيد رنان: كره اليهود في العالم المسيحي يعود إلى فكرة ان اليهود هم المسؤولين عن قتل يسوع المسيح، والذي يؤمن المسيحيون انه ابن الرب، فبالتالي اليهود قتلوا الرب. وبالنسبة لشخص مؤمن، ان قتل الرب جريمة لا تغتفر. ولذلك، قام القساوسة، من خلال موعظة الأحد، بتعليم الرعية في الكنائس، ان اليهود شعب سيئ جداً وقد أقدموا على قتل الرب. وبالطبع تم اختلاق قصص أخرى لزيادة الكره، قصص من قبيل "هؤلاء الذين قتلوا الرب يسعون لسرقة مالكم وقتل اطفالكم والتحكم بالعالم اجمع"، وبقي هذا البغض طويلاً، حتى بعد تلاشي الدين في معظم المجتمعات الأوروبية.
وما هو الفرق بين ما ذكرت وما يسمى اليوم بـ"الكره المسلم لليهود"؟
إن القانون الإسلامي يحدد حقوق "اهل الكتاب" او "أهل الذمّة"، والمقصود هنا هم المسيحيين واليهود، وينص القانون الإسلامي على حمايتهم ومعاملتهم معاملة حسنة، ولكن لا يسمح لهم باقتناء السلاح او الانضمام لصفوف الجيش، كما يحتم عليهم دفع ضريبة خاصة.
إن القرآن يشير إلى اليهود بشكلين، الشكل الأول "بني إسرائيل" والشكل الثاني "اليهود". ولكن معظم الآيات التي تتحدث عن اليهود، يستخدم فيها المرجع الأول "بني إسرائيل"، وغالبية هذه الآيات تعيد رواية القصص الموجودة في"العهد القديم" كتاب اليهود المقدس، ولكن للأسف الكثير من المسلمين لا يعلمون ذلك. المرجع الثاني "اليهود" مستخدم لوصف الثلاث قبائل اليهودية التي كانت تعيش في المدينة المنورة، واللذين قاموا بعمل معاهدة مع النبي محمد، ولكن هذه المعاهدة تداعت بعد فترة، وانتهى الأمر بقتال دموي، فتم وصفهم بالخيانة وعدم الجدارة بالثقة.
لقد تساءلت، في أحد المقالات التي كتبتها لمجلة زينيت، ازا ما كان هناك كره متوارث عند المسلمين تجاه اليهود، هل تعتقد بوجود شيء من هذا القبيل؟
لا، لا اعتقد بوجود شيء كهذا. على الأقل ليس اكثر من أي عدم ثقة متبادلة بين قبائل او مجموعات معينة.
ولم ذلك؟
في العالم اليوم، مشاعر المسلمين تجاه اليهود؛ وتحديداً المسلمين العرب؛ تقريباً دائماً ما يعكس شعورهم تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. قبل ١٢٠ عام، الحركة الوطنية اليهودية تأسست لإيجاد حل لتزايد معاداة السامية في أوروبا. اليهود في العالم العربي والمسلم كانوا أقليات، وبالتالي مواطنين من الدرجة الثانية، ولكنهم لم يتعرضوا للاضطهاد كما حدث في أوروبا على مدى مئات السنين. كان هناك امل كبير باختفاء هذا التحيز ضد اليهود في أوروبا، خلال عصر النهضة، ولكن سرعان ما تحول إلى خيبة. فكان الحل، بالنسبة للحركة الصهيونية، هو إقامة دولة لليهود. وهذه الدولة وجب إقامتها في المكان الذي اتى منه الدين اليهودي، المكان الذي طالما تمنوا العودة إليه، القدس، ارض إسرائيل.
ولكن وضع اليهود تحسّن في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر
كان الأمل ببداية عصر النهضة في أوروبا ان ينتهي التحيّز ضد اليهود، ولكن انتهى ذلك بخيبة كبيرة. ولذلك، الصهيونية كانت الحل، أي بأن يقام دولة لليهود. وبأن تقام تلك الدولة في المكان الذي جاء اليهود منه، المكان الذي لطالما حلم اليهود بالعودة إليه: القدس، ارض إسرائيل.
في العالم العربي، يتم الخلط بين »صهيوني«، »إسرائيلي« و»يهودي« في معظم الأوقات، والكثيرون لا يعلمون الفرق بينهم
وكيف تمت ترجمت هذه الرؤية على ارض الواقع؟
بدأ اليهود بالذهاب إلى فلسطين وشراء الأراضي من الإقطاعيين الأغنياء، العديد من مالكي الأراضي كانوا يعيشون في بيروت ومدن بعيدة، ولم يكونوا يكترثون بالمزارعين الذين كانوا يعيشون ويعملون في تلك الأراضي. وبذلك وجد المزارعون أنفسهم بدون عمل، بين ما استملك اليهود، ما كان يمثل للمزارعين، البيت ومصدر الرزق. هذا كان قبل سنة ١٩٤٨، أي قبل قيام دولة إسرائيل، وهكذا نشأت العداوة بين العرب واليهود.
بالنسبة للأوروبيين، أي نوع من الكره ضد اليهود، هو معاداة للسامية، لأنهم ينظرون إليها من خلال تجربتهم التاريخية، حيث نتج عن كره اليهود هناك ما نعرفه اليوم بالمحرقة. ولكن في معظم الحالات، عندما يقول شخص عربي: "اليهود هم اعدائي" فهذا الشعور سببه في معظم الحالات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ألا ترى ان الأنظمة الشمولية العربية لعبت دوراً كبيراً في تنمية هذا الحقد؟
بدون أدني شك، الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي تلاعبت بالجماهير، واستخدمت الخوف والكراهية لتحقيق اهداف سياسية. ولكن لم تكن تلك الأنظمة هي الوحيدة التي استخدمت هذه الأساليب، انظر إلى ما يفعله ترامب في الولايات المتحدة، وما يفعله ناتنياهو في إسرائيل، انهم يعملون بنفس الطريقة. وبالطبع الموضوع معقد أكثر من ذلك، في العالم العربي هناك خلط كبير بين المصطلحات "صهيوني، إسرائيلي ويهودي" والكثيرون لا يعرفون الفرق بين تلك المصطلحات. فعندما يقول أحد ما "اليهود" هو بأغلب الأحيان يقصد "الإسرائيليين". كما ان المجتمع اليهودي في الغرب يساهم احياناً بهذا اللغط. على سبيل المثال: عندما يتحدث بعض ممثلو المجتمعات اليهودية وتبريرهم لأفعال إسرائيل وكأنهم يمثلون الدولة الإسرائيلية.
ما هو الدور الذي تلعبه السياسات الإسرائيلية في زيادة الكره تجاه اليهود في الشرق الأوسط؟
أنا اعتقد انه من المبرر اخلاقياً قيام دولة لليهود، على أساس قرار الأمم المتحدة عام ١٩٤٧. شمل القرار إقامة دولة عربية ودولة يهودية. للأسف لم يتقبل العرب قرار التقسيم ذاك. بالنسبة للكثير من العرب، مجرد وجود دولة إسرائيل يثير الكره لديهم، وهذه مشكلة قائمة. طبعاً زادت الأمور سوءً باجتياح الضفة الغربية عام ١٩٦٧ وزاد الطين بلة بصعود اليمين الإسرائيلي إلى الحكم وسياساتهم الاستيطانية العدائية.
على المجتمع اليهودي في ألمانيا ان يتواصل بشكل فعّال مع المجتمعات المسلمة
هناك الكثير من اليهود والإسرائيليين الذين يقفون ضد سياسات الحكومة الإسرائيلية، هل يتوجب عليهم ان يقوموا بحملات أكبر لتسليط الضوء على المشاكل التي تسببها السياسات الإسرائيلية، وخاصة في أوروبا؟
أعتقد ان هناك بعض الجمعيات اليهودية في أوروبا تقوم بمثل هذه الحملات، ولكن اتفق معك، لا يقومون بها بما يكفي. الوضع في المانيا مختلف، ويعود ذلك إلى تاريخ المانيا، والحزب النازي والمحارق التي حدثت. ولذلك، الألمان حساسون جداً عندما يتم انتقاد اسرائيل.
إذاً ما الذي يمكن فعله للتعامل مع قضية معاداة السامية في المانيا وتحديداً تلك التي تنبع من المهاجرين واللاجئين؟
اعتقد انه من الواجب على المجتمع اليهودي هنا ان يتواصل بفعالية مع المجتمع المسلم وان يقدموا لهم المساعدة. اظن انه من الواجب على اليهود ان يكونوا في الصف الأول للترحيب بهم في أوروبا، بدل ان يتعاملوا معهم بخوف. هذا رأيي الشخصي، ولكن للأسف، الكثيرون لا يشاركونني هذه الفكرة.
لقد كتبت كتاب عن المسلمين ومعاداة السامية. عن ماذا اثمرت ابحاثك؟
لقد أجريت الكثير من المقابلات مع المسلمين في أوروبا، ووجدت ثلاث نقاط مشتركة بين غالبية الأشخاص الذين تحدثت إليهم. اغلبيتهم يؤمنون بالصور النمطية السلبية الشائعة عن اليهود، معظمهم يحملون مشاعر سلبية تجاه اليهود بسبب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومعظمهم لا يعرفون الكثير عن تاريخ هذا الصراع. طبعاً بالإضافة إلى ما ذكرته سابقاً بالنسبة للخلط بين "صهيوني، إسرائيلي، يهودي".
التفهّم لا يعني الموافقة بالرأي، بل يعني ابداء الاحترام
وماذا تقترح بناءً على تلك النتائج؟
ما نحتاجه هو منهج تعليمي جيد، في كل مدرسة، ليس فقط للمسلمين، بل لكل مدرسة في ألمانيا، منهج يعلم ويشرح تاريخ الصراع بدون تحيّز وبموضوعية وحياد، يقدم كل وجهات النظر المختلفة عن هذا الصراع. في النهاية، يستطيع كل طالب وطالبة تكوين نظرتهم ومشاعرهم تجاه هذه القضية.
إذاً علاج هذه الحالة يكمن في التعليم؟
الشيء الآخر الذي نحتاجه هو ان يكون لدينا تفهّم وتعاطف. يجب ان نتعلم تقبّل واحترام مشاعر ومخاوف وحتى الكراهية عند الآخرين. يجب ان يفهم اليهود السبب الذي يجعل الكثير من المسلمين يربطون هويتهم بفلسطين، ويجب على المسلمين ان يفهموا الأسباب التي تجعل الكثير من اليهود يربطون هويتهم بإسرائيل. الفهم لا يعني بالضرورة توافق الرأي، بل يعني احترام الرأي.
هذا يترك المجال للمشاعر السلبية ضد اليهود.
بالطبع، يجب ان يدرك الجميع انه بالرغم من الكره تجاه الطرف الآخر، يبقى العنف، بكل اشكاله جسدياً كان او لفظياً، مرفوض رفضاً قاطع. بالنتيجة: أولاً، التعليم وتوضيح كل حقائق النزاع، ثانياً، اثارة التفهّم والتعاطف مع الطرف الآخر – تلك هي وصفة ديفيد رنان للتعامل مع قضية معاداة السامية بين المسلمين.
ديفيد رنان هو مواطن إسرائيلي، الماني وبريطاني. ولد في تل أبيب عام ١٩٤٦. حائز على دكتوراه بالدراسات السياسية والاجتماعية، ألّف عدد من الكتب، آخرها كان باللغة الألمانية بعنوان: “Muslimischer Antisemitismus: Eine Gefahr für den gesellschaftlichen Frieden in Deutschland?” (معاداة السامية عند المسلمين: خطر يهدد السلام المجتمعي في ألمانيا؟) حيث قام بإجراء مقابلات مع العديد من المسلمين في ألمانيا وانكلترا للحديث عن معاداة السامية.