قد يتم إخفاء مشاعر معاداة اليهود تحت غطاء انتقاد دولة إسرائيل، وقد يحدث العكس. ولكن إذا اردنا ان نعالج المشكلة فيجب التمييز بين الأمرين.
في الآونة الأخيرة ازداد الاهتمام الشعبي في ألمانيا بموضوعات معاداة السامية ومضايقة اليهود في الأماكن العامة أو استخدام العنف ضدهم. كما أثارت، حوادث اعتداء ضد بعض اليهود، الاهتمام العام ، خاصة تلك التي قام بارتكابها بعض المهاجرين العرب أو المسلمين. فقد تم اعتبار تلك الحوادث – خصوصاً في الصحافة والميديا- على أنها مؤشر أن المسلمين لديهم مواقف معادية للسامية أكثر من أي فئة أخرى في المجتمع الألماني.
ولكن السؤال الأهم هنا، هل يوجد بالفعل شعور فطري لدى المسلمين والعرب بمعاداة السامية؟ وهل هذا الشعور موجود حصراً عند المسلمين والعرب؟
للإجابة على هذا السؤال يجب اولاً تعريف "معاداة السامية". هذا المصطلح الذي ابتدعه الباحث الألماني فيلهلم مار في عام ١٨٧٩و أصبح ؛منذ ذلك الحين يستخدم بمعنى "كره اليهود".
مازالت حوادث "معاداة السامية" في ألمانيا تتكرر، مثل ما حدث في فضيحة جوائز إيكو لمغنيي الراب (مهرجان سنوي ألماني يكرم مغنيي الراب)، حيث ان تكريم ألبوم المغنيين كاغاه وفريد بانغ، الذي يحتوي على اغنية فيها تسيئ لضحايا معتقل "أوشفيتز" النازي، قد اثار موجة سخط كبيرة؛ كما ان المظاهرات التي يتم فيها احراق اعلام عليها نجمة داود، تثير حفيظة المجتمع الألماني.
ومن احد الأمثلة على الاعتداءات، ان حدث في منطقة برنزلاوربرج في برلين، ان قام شاب سوري في ١٩ من العمر بالاعتداء بالضرب، مستخدماً حزامه، على شخص عربي إسرائيلي، كان يرتدي قلنسوة اليهود (الكيباه) ضمن تجربة اجتماعية كان يجريها في المنطقة. هذا بالإضافة لورود تقارير تفيد بأن الطلاب اليهود يتعرضون لمضايقات في المدارس الإعدادية والمدارس الثانوية.
هل يعد المسلمون المعادين للسامية اسوء من نظرائهم غير مسلمين؟ وهل نسبة انتشار معاداة السامية بين المسلمين أكبر من نسب انتشارها بين الألمان غير المسلمين؟
تكشف هذه الحوادث عن توجه عام لمعاداة السامية من قبل المسلمين. غير ان اليهود في ألمانيا اعتادوا على اعتداءات معسكر اليمين المتطرف، التي تأخذ اشكال عدّة، مثل رسم الصليب المعقوف (شعار النازية) أو تحرش لفظي ضدهم الأماكن العامة.
يمكن القول بدون مبالغة أن العديد من اليهود في ألمانيا يشعرون بقلق ورعب مستمر. وبالرغم من وجود بعض الصعوبات، إلا أن بعض الشهادات المتفرقة وبعض الدراسات توثق وتؤكد على وجود اعتقاد سائد بين اليهود في ألمانيا: أن المسلمين يمثلون لهم خطر كبير.
بعد موجة اللجوء التي شهدتها أوروبا، في صيف ٢٠١٥، حذر المجلس المركزي اليهودي في ألمانيا من احتمالية تعرض اليهود لخطر، بسبب ازدياد نسب المهاجرين المسلمين في ألمانيا. وقد شدد عدد من الممثلين البارزين للمجتمع اليهودي ومنظمات المجتمع المدني على مشروعية الخوف من ازدياد أعداد المهاجرين المسلمين لألمانيا، لكنهم أكدوا أيضا على أهمية عدم مواجهة تلك المشكلة بشكل فيه عنصرية أو تمييز ضد المسلمين.
على المستوى السياسي، يتم حاليًا مناقشة حق المهاجرين المسلمين في البقاء في ألمانيا إذا تم ثبوت إدانتهم بمعاداة السامية. كما أن حزب البديل لألمانيا، المحسوب على المعسكر اليميني، الذي غالبا ما يستمد شعبيته من خلال استخدام علامات معادية للسامية، أصبح يروج لنفسه كحليف لليهود ضد المسلمين. حيث قالت "فراوكه بيتري"، رئيسة حزب البديل السابقة، في تصريح "إن حزب البديل لألمانيا، يعد واحد من الضمانات السياسية القليلة لوجود اليهود في ألمانيا مع تزايد عدد المهاجرين المعادين للسامية."
لكن هل يعد المسلمون المعادين للسامية اسوء من نظرائهم غير مسلمين؟ وهل نسبة انتشار معاداة السامية بين المسلمين أكبر من نسب انتشارها بين الألمان غير المسلمين؟
قبل الإجابة عن تلك الأسئلة بإحصائيات أو من منظور "الادراك الحسي"، يجب ان نوضح مفهوم معاداة السامية، ثم ان نحدد ماهيته. حيث اختلف الخبراء كثيرا حول تعريف مفهوم معاداة السامية وتحديد ماهيته.
التعريف المستخدم على نطاق واسع، كما هو مستخدم في ألمانيا والعديد من البلدان الأخرى، هو نتاج الكثير من المفاوضات المطولة والشاقة، التي شاركت فيها العديد من المنظمات والجمعيات اليهودية على الصعيد الدولي. سعت تلك المفاوضات إلى اعتماد أوسع تعريف ممكن، كما سعت المفاوضات أن تعكس الموقف السياسي للحكومة الإسرائيلية. وبالتالي تعريف مفهوم معاداة السامية يضمن الإشارة إلى المواقف السلبية تجاه دولة اليهود في إسرائيل.
يلجأ كثير من الالمان للتعبير عن مشاعرهم المعادية لليهود من خلال انتقاد دولة إسرائيل أو الحركة الصهيونية. ويعد ذلك التفاف حول مشاعرهم المعادية للسامية. لكن من وجهة نظر تحليلية، يجب التمييز بين معاداة السامية وانتقاد إسرائيل أو الحركة الصهيونية من أجل معالجة المشكلة بشكل فعال.
لا يمكننا أن ننكر أن شعور العرب أو المسلمون بعداء تجاه اليهود يرجع إلى إقامة دولة إسرائيل والصراع الممتد مع الفلسطينيين
إن ما يثير الصدمة لدى الألمان -ليس فقط اليهود منهم- هو التعبير الصريح واللغة المستخدمة من قبل "الجناة المسلمين"، حيث يستخدمون لغة شديدة اللهجة وفظة تتسم بالتعسف ضد اليهود، وتعتبر معادية للسامية بشكل واضح. قد تكون هناك معدلات عالية لانتشار مشاعر معاداة السامية بين الألمان والأوروبيين بشكل عام، ولكن عادة لا يتم الإعلان عن ذلك أو التعبير عنه بشكل صريح.
في حقيقة الأمر، قد ينكر هؤلاء الأشخاص (غير العرب ومسلمين) إذا وجهت إليهم اتهامات بمعاداة السامية. ولكن عند مواجهة مرتكبي اعتداءات معادية للسامية من المسلمين، لا يشعرون بالذنب تجاه تلك الاتهامات. وعادة لا يشعرون بخوف من الوصم بالعار أو النبذ، مما يجعلهم مادة تثير سخط الإعلام كما تثير ردود فعل عنيفة. بصرف النظر عما إذا كانوا قاموا بارتكاب اعمال عنف أو قاموا "فقط" بإصدار تصريحات معادية لليهود.
والجدير بالذكر هنا، أن الأمر يختلف في أوساط المسلمين من ذوي الخلفية العربية، حيث تم رصد ظاهرة أخرى وهي ما تسمي ب "معاداة السامية وكل ما هو مرتبط بإسرائيل". وما نحن بصدده هنا لا يعتبر حالة مستترة يتم فيها إخفاء مشاعر معادة للسامية تحت غطاء انتقاد إسرائيل، ولكن هي حالة تعبير عن موقف معادي لإسرائيل بشكل يقدم نفسه تلقائيا كموقف معادي لليهود.
ويسبب ذلك عدة مشاكل في المانيا بالتحديد: حيث أن معادية السامية بالتأكيد مرفوضة تماما في ألمانيا وأي تصريحات أو أفعال معادية للسامية تتم ادانتها. وبالرغم من ذلك، فهناك أيضا عدة أسباب مفهومة لشعور المسلمين ذوي الأصول العربية بعداء تجاه إسرائيل.
لا يمكننا أن ننكر أن شعور العرب أو المسلمون بعداء تجاه اليهود يرجع إلى إقامة دولة إسرائيل والصراع الممتد مع الفلسطينيين، وبالتالي يشبه ذلك تاريخ معاداة السامية في أوروبا، ومن الواضح ان معاداة السامية تأخذ شكل مختلف بين المسلمين ولكنها لا تقتصر عليهم.
الحرب القائمة والممتدة تثير العواطف والانفعالات، ويتم تغذية وتوظيف تلك العواطف من عدة جهات. كما تنعكس المشكلة الحقيقية والخطر الأكبر عند مواجهة تلك الانفعالات بالجهل والمعرفة المنقوصة. والحقيقة هي أن موقف المهاجرين العرب أو المسلمين، المعاد لليهود في ألمانيا، ينبع من انتقادات مشروعة تجاه دولة إسرائيل أو إدانات للإسرائيليين بشكل عام؛ بسبب النزاع الجاري بين إسرائيل وفلسطين.
ذلك يثير السؤال حول ما إذا كان من الضروري تمييز ماهية المواقف السلبية ضد اليهود، وهل تنبع تلك المواقف من معاداة اليهود أم من معاداة إسرائيل؟ إن تمييز السبب الأساسي للمعاداة سيساعد في تفسير قيام بعض العرب بالتعبير علناً عن مواقفهم السلبية تجاه الإسرائيليين أو اليهود، بغض النظر عما يتقبله المجتمع الألماني في العموم وما يعتبره مقبولا سياسيا، حيث لا يشعر العرب أو المسلمون بأي ذنب -بسبب تلك المواقف- بل بالعكس يشعرون بأنهم على حق من الناحية الأخلاقية.
يختلط الأمر على معظم العرب والمسلمين حول العالم في تحديد المشكلة الحقيقية، فيعتقدون إن اليهود والمنظمات اليهودية هم تلقائيا أنصار إسرائيل، وبالتالي هم في نزاع مسلح قائم ومستمر ضد بعضهم البعض. وبالتالي يرى المسلمين حول العالم أنهم في صراع ضد اليهود أجمعين. كما يغذي ذلك اللغط، لدى العرب حول العالم، الخلط بين يهودي/ إسرائيلي/ صهيوني.
أخيرا بما ان المسلمين او العرب سيواجهون دائما شكوك حول موقفهم من معاداة السامية، فهناك خبرين أحدهما جيد والأخر سيء: ستظل معاداة السامية موجودة عند الشخص الألماني الناضج الذي ينتمي للمعسكر اليميني ويفخر كثيرا بالعرق والتاريخ الألماني. حيث انه تم تعليمه على مدار سنوات عدة ولكن لم يفلح ذلك في تغيير معتقداته في نهاية المطاف. كما أنه لا يمكن تغيير واقع معاداة السامية في التاريخ الألماني، وسيسعى دائما اليمين المتطرف لسلك طرق ملتوية للتعبير عن معاداتهم لليهود، حتى في حالة انتهاء النزاع بين إسرائيل وفلسطين، وحتى أن لم تكن هناك دولة إسرائيل من الأساس.
ولكن الخبر الجيد هو: هناك فرصة تكمن بإمكانية معالجة مشكلة معاداة السامية، عند المسلمين ذوي الأصول العربية، بفاعلية. وذلك من خلال الحوار البناء المتبادل والعمل على التثقيف وعدم توجيه أصابع الاتهام وتهميش الآخرين.
قام د. ديفيد رنان مؤخراً بإنهاء مشروع بحث يدور حول موقف المسلمين تجاه اليهود. وضمن اطار البحث، اجرى د. رنان مقابلات مع أكثر من ٧٠ طالب وخريج جامعي مسلمين، في ألمانيا وانكلترا. ويطالب في كتابه، الذي ألفه عن هذا الموضوع، ان يكون الخطاب العام اكثر تمييزاً و أقل تعميماً، لتفادي توجيه اتهامات غير مفيدة.
تم نشر كتاب د. ديفيد رنان "Muslimischer Antisemitismus: Eine Gefahr für den gesellschaftlichen Frieden in Deutschland?" في شهر نيسان عام ٢٠١٨.