الزمن اللازم للقراءة: 7 دقيقة
الشعبوية الدينية

الدين يعود ليزحف إلى السياسة

مقالة
داخل جامع آية صوفيا في اسطنبول
أيا صوفيا، وخلال ١٥٠٠من وجوده كان رمزاً سياسياً للديانات الإبراهمية المصور: دانيال غيرلاخ

عندما يقوم السياسيون باستخدام أفكار مبسّطة عن الإسلام والمسيحية، من سيكون المستفيد الحقيقي من ذلك؟

عادت الأفكار الدينية، في شتى انحاء العالم، لتجد طريقها إلى السياسة مجدداً، بهدف تشريع اصحاب السلطة، من خلال ترويج أفكار "نحن وهم". فقامت الصين، ومن خلال صياغة جديدة للكنفوشية، بتشريع الحزب الشيوعي. وفي الهند تبتدع الحكومة الهندوسية حكايتها القومية، التي تقوم على اقصاء المسلمين. ثم في روسيا يتم من خلال فلاديمير بوتين وضع الكنيسة الأرثودوكسية في مواجهة ما يدعي انه النموذج الديمقراطي الغربي المنحلّ. أما في تركيا فينهي الحاكم اردوغان الحكاية العلمانية للجمهورية ويربط الجنسية التركية بالإسلام.

 

كما ان الرئيس الشعبوي في الولايات المتحدة الأمريكية، يستغل الفرصة لإعادة إحياء مفهوم "الخصوصية والتميّز" الأمريكي، ويحاول تبنّي فكرة شبه دينية لتأسيس مدينته الفاضلة. بينما أوروبا تعيد تصنيف المسيحية على أنها العلامة الفارقة للغرب، ويتم استخدام هذا التوجه في حملات انتخابية في الكثير من بلدان العالم القديم.

 

هذا يعني ان المناطق الثقافية تعرّف بدياناتها؛ مثل: الكونفوشية والهندوسية والروس الأرثودوكس والمسيحية والإسلام السني ومفهوم الشعب المختار والمسيحية اللاتينية. ولا يتم في أي مكان التركيز على ميزات السلطة الديمقراطية كما هي في الأنظمة البرلمانية، مثل المبادئ الدستورية وحقوق الإنسان وفصل القوى.

 

بل إن الإرث الديني، الذي تمت إعادة تدويره وتفُسِيره من جديد، أصبح يستخدم من أجل إعطاء شعور بالانتماء. هوية تكرس انشاء الحواجز بين الناس. إن البحث عن الهوية هذا أصبح اليوم ظاهرة كونية، لذا أستطيع ان أقول: نحن نعيش في "عصر الهوية". لم يقتصر تأثير العولمة والتطور الرقمي على الاقتصاد وحسب، بل وصل الضغط الذي يراكمانه إلى حياة الافراد والمجتمعات وعلى الهيكلية الاجتماعية.

 

ويتضح ذلك بشكل خاص في العالم الإسلامي. فالمسلمون في نيجيريا يعرفون اليوم كيف يعيش المسلمون في ماليزيا. ونواجه في كل مكان نفس الأسئلة: ما هو الإسلام الحقيقي؟ وما التفسير الصحيح للنص الديني؟ وما مستقبل الدين؟

 

علاوة على ذلك، فإن الصدام مع العالم غير الإسلامي في الغرب ، ما زال تحدياً قائماً. أي ان هناك ضغط مضاعف، داخلي وخارجي، يجثم على كاهل العالم الإسلامي.

 

وبالنتيجة نجد ان الإرهاب الاسلاموي، الذي هو ثمرة والصيغة الوهابية المعادية للحداثة، موجه وبشكل خاص ضد التعددية في العالم الإسلامي وضد المسلمين أنفسهم. حيث أن اغلب ضحايا هذا الإرهاب هم مسلمين. إن الإرهاب يوجه ضد التعددية في المجتمعات الإسلامية وضد الأقليات الدينية والعرقية وضد التفسير الحديث للدين. إن المستقبل ليس سوى إعادة تطبيق الماضي. وهذا يفسّر الشلل الفكري في العالم العربي، كما تم وصفه في تقرير الأمم المتحدة للإنماء عام 2003.

 

إن التعددية، الخارجية والداخلية، تتعرض لموجة عنف ساذجة، بصورة فردية اكثر من ان تكون جماعية. وفي هذا الخصوص العالم الإسلامي ليس وحيداً، فهذا الخطاب والأسلوب نجده في موسكو وفي نيودلهي وفي أنقرة وفي بيكين وفي بودابست وواشنطن. مازال الغرب يركز على المسيحية التي تميزه عن الشرق، أي عن الثقافية الإسلامية العربية والتركية؛ لقد خدم النموذج المسيحي في أوروبا الغربية، منذ اندثار الإمبراطورية الرومانية، هدف تشريع السلطة. تلك السلطة التي جائت بأحقية تاريخية وليس عن طريق الانتخابات. ولا يعني مصطلح التاريخ الوارد هنا أدب الرحلات أو تقرير ما من نوع تلك التي كتبها الكاتب اليوناني هيرودوت، وإنما استنباط المعنى الأرقى، أي النبوءة الإلهية المرسلة.

 

التاريخ في الغرب لا يعني ما حدث، وإنما العبرة مما حدث. فالمسيحية تقدم للعالم فكرة أن التاريخ ما هو قصة الخلاص. وبالتالي، فإن التدخل الإلاهي الدائم بشؤون الدنيا، يعطي معنى لهذا التاريخ المستمر، وعلينا نحن البشر ان نكتشف ونفهم هذا المعنى.

 

إن الفلسفة الغربية في التاريخ، التي تتخذ المبدأ السابق اساساً لها، فهي تميل إلى التخمين حول معنى الحياة. فلسفة هيجل في التاريخ مازالت مستخدمة حتى يومنا هذا. وضمن هذا التقليد يصطف مفكرون مثل أوسفالد شبرينغلير ورؤيته لنهاية العالم كما هو الحال أيضا بالنسبة لفرانسيس فوكوياما ونموذجه حول "نهاية التاريخ". كذلك فإن كتاب صاموئيل هانتنجتون "صراع الحضارات" يمثل تكهنات هيجل التاريخية في البناء والإنماء.

 

انبثق عن الاندفاع الديني، في الفكر الأوروبي حول معنى التاريخ، فرع جديد: وهو الفكر الطوباوي التقدمي الذي يمكن وصفه بالمعتقد العلماني - الديني الذي يدفع نحو الأفضل، نحو مستقبل متقدم، الإيمان بالقدرة على إمساك زمام أمور الحياة وتحسينها. خصوصاً في أوروبا، وبشكل ظاهر في نظرية كارل ماركس، أرادت إعادة منح الإنسان المغترب عن واقعه مكانه في التاريخ. اقوى تفرعات هذا الفكر الحديث، المنبثق من حكاية الخلاص المسيحية، وهو النموذج الأمريكي "المصير الواضح"، الذي يؤمن بيوتوبيا قابلة للتحقيق، "أورشليم" جديدة في العالم الجديد –رؤية لمدينة على جبل غنية بعظمتها ونورها مثل غنا "أورشليم" في انجيل يوحنا "سفر الرؤيا".

 

ساهم التطور المعاصر في تحرير الدين المسيحي من سلطة العصور الوسطى. فلم يعد البابا أو الملك هما ثوابت السلطة الدنيوية والضامنين للتدخل الالهي في العالم. المجال السياسي، الذي يتيح فضاءً للتدخل الإلاهي، اصبح تاريخاً. ولهذا اصبح لدى الغرب نظرية سياسية، مسيحية سياسية، لا علاقة لها بالروحانية أو بالممارسات الدينية في العصور الوسطي المتدينة.

 

هذا اعطى دفعة للعلمانية في تاريخنا المعاصر. إن غالبية الأوروبيين تدعي بأنها تحيا حياتها حسب القيم المسيحية. وهؤلاء كثر جدا، ويزيد عددهم هؤلاء عن الذين يتوجهون للكنائس أيام الاحد. اغلب محللين الحداثة الأوروبية يرون دور قيم المسيحية يقتصر على كونها منبع للقيم وكمعلم للأخلاق.

 

إن الغرب المسيحي، وبشكل خاص في المناطق الكاثوليكية من القارة، ما زال ينظر إليه على أنه روحاني. والرغبة في إيجاد الهوية غالباً ما يربط بالحنين إلى العصور الوسطى، وهو ما يظهر بشكل واضح في القرن الـ 19 من خلال إعادة إحياء الموسيقى الكنسية وفي بناء الكنائس الرومانسكية والقوطية الحديثة، وكذلك قاعات الكونسيرت ودور البلديات. في ذلك الزمن، وكما يحدث الآن، حدثت إضرابات اقتصادية وتكنولوجية دفعت الناس للبحث عن هوية ووطن. هذا البحث دائماً ما يجد جوابه في الرجوع إلى الماضي.

 

التكهنات التاريخية في البلدان الأوروبية البروتستنتية هي سياسية أكثر منها دينية. الثقافة السياسية الغربية غالباً ما تفهم على انها حصرية وتستثني غير المسيحيين، وبشكل خاص، حالياً، المسلمين. منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، تأتي المواقف ضد الغرب من الشرقيين، الذين وصفوا بالبربرية. ولكن في القرن الـ 20 كان هذا الوصف كان يستهدف روسيا "الشيوعية الكافرة"، التي تبعت خطوات الهونيين الآسيوين، الذين "دمروا" أوروبا في يوم من الأيام.

 

الحركات السياسية المعاصرة التي تشدد على وصف الغرب "بالغرب المسيحي"، تعمل بطرق مماثلة لما يتم في أماكن أخرى من العالم، كما تم ذكره سابقاً، بحيث انهم يضخمون من شعورهم الذاتي حتى لا يتركوا مجال للآخر. الصين كونفوشية وروسيا أرثودوكسية وتركيا اسلامية وأوروبا مسيحية. إن هذا الفكر التوحيدي لا يتماشى مع الواقع ولا مع الرؤية التاريخية. إنه في غالب الأحيان فكر أكل عليه الدهر وشرب: نعم إن أوروبا مسيحية والديانة المسيحية هي القوة المحركة الأهم لتطور هذه القارة، كما هو الحال بالنسبة للإسلام في العالم العربي. لكن ما الذي ستنتجه هذه الطرق؟ وماذا ستعني في حياة مجتمع متأثر بالمسيحية والإسلام؟

 

إن الغرب بحاجة إلى الشرق، كما الشرق بحاجة إلى الغرب. إنهما بحاجة إلى بعضهما البعض كمرآة يرى كل منهما ذاته في الآخر، وكتحد ونظير له. في الشرق نعرف أصل حضارتنا والقدس مهد عالمنا. وإلى جانب القدس لا توجد مدينة تضاهيها غير أثينا، مهد الفلسفة والتراجيديا وفن الدولة السياسي والخطابة. ومن منظورنا فإن أثينا تقع في الشرق، تماما كما تروي لنا مصادر العصور اليونانية القديمة، بأن أوروبا والغرب من منظور العالم اليوناني، بالمعني الحرفي للكلمة، كانت غارقة في الغموض والظلمة.

 

كان الشرق والغرب يتبعان معاً للإمبراطورية الرومانية، روما الغربية وروما الشرقية. وفقط عندما قدمت التوسعات العربية في القرن السابع الميلادي انهت بدورها هذه النظرة الاندماجية. لم يعد ما يسمى mare nostrum، أي بحرنا، كما كان يطلق على البحر الأبيض المتوسط لدى سكان العالم المسيحي، محاطاً من إمبراطورية واحدة وإنما من اثنتين. وبنفس الوقت تم حمل الإرث اليوناني إلى العالم الثقافي وجرى اعادة ترجمته. وليسوا بالقلة الذين يعتقدون بأن توماس فون أكين Thomas von Aquin لم يكن بالإمكان أن يصبح مفكراً وباحث شهير لولا الترجمات العربية لمؤلفات ارسطو.

 

كذلك الأمر بالنسبة لإرث روما، بالتحديد روما الشرقية، فقد عاش فكر الإمبراطورية في العالم الإسلامي القديم. كان العثمانيين يرون أنفسهم على أنهم ورثة روما. إن احتلال العاصمة القديمة "القسطنطينية" اضفى ختماً رمزياً شرّع هذا الإدعاء. إن أفكار الفلسفة والسياسة أستمرت في العالمين المسيحي والإسلامي وتم تطوريها في كلا العالمين.

 

بقيت القدس، رمز الديانات التوحيدية، حتى يومنا هذا معقد الإيمان باليوم الآخر والمطالب الدنيوية بمعرفة الحقيقة من قبل الديانتين الكبريين. وذلك بالرغم من أنهما كانتا وما زالتا في موضع مسائلة من قبل الديانة اليهودية، كونها الأقدم بين الديانات التوحيدية الثلاث التي تدعي حق الملكية الروحاني في بقعة الصراع تلك.

 

إن المسيحية والإسلام تباعدت على مدى التاريخ إلى حد كبير. وكلا الديانتين ابتعدتا عن الموقع الجغرافي حيث كانت ممالكهم العتيقة؛ فغالبية المسيحيين تعيش اليوم في القارة الأمريكية، بينما تعيش غالبية المسلمين في ماليزيا وإندونيسيا. بينما حافظت روما والقدس ومكة، بالرغم من ذلك، على اهميتهم الدينية العالمية. إن عبء التاريخ ثقيل، وتحت هذا العبء، انتقل مفهوم العداء وترسخ في العالم الجديد.

 

على الغرب والشرق أن يجدا طريقهما لبعضهما البعض، بلاد الغرب وبلاد الشرق، ينبغي أن يبدءا مرحلة جديدة، وان تكوّن فكر جديد للثقافات التي تعيش حول البحر المتوسط. في عصر "الهوية" الذي نعيشه، إن المسؤولية تقع على عاتق الغرب والشرق معاً لصياغة عهد جديد لا يقوم بترويج "الخلاص" على انه يحقق من خلال تكرار الماضي بصوره النمطية وشيطنته للآخر. وبهذه الطريقة فقط، بأمكانهم مواجهت اختبار الوقت.


ألكسندر غورلاخ هو زميل في قسم الحكومات في جامعة هارفرد. كان سابقاً باحث ضيف وزميل منحة جون ف. كندي في جامعة هارفرد، قسم الدراسات الأوروبية، حيث قام بأبحاث عن الأديان والسياسة. حاصل على درجة الدكتوراه في علم اللاهوت واللغات، كما انه زميل اول في مجلس كارنيغي للإثنيات في السياسة، ومحرر المجلة الإلكترونية. www.saveliberaldemocracy.com

عن: 
ألكساندر غورلاخ