نشأ الشباب الليبي في عصر مختلف تماما عن زمان ذويهم، حيث عاشوا نشوة الثورة لينحدروا بعد ذلك إلى سفك الدماء والفوضى.
تصف جيجي الرمحي، ذات الـ 23 ربيعاً، القناص الذي كان ينشط في الشارع الذي تسكنه في بنغازي، قائلة: "كدت أن أصاب مرتين. ذات مرة، كان لدي امتحان صباحا وكنت قد درست جيدا إذ لم أرد تفويته". كانت جيجي تعرف أنها تخاطر بحياتها عندما غادرت منزلها عند الفجر، فالتعرض لإطلاق النار كان حتميا.
على الرغم من الخطر على حياتها، تمكنت جيجي من الوصول إلى الامتحان. "كنت أركض بأقصى سرعة وهو يطلق النار، كنت اسمع ازيز الرصاص المار فوق رأسي. في المرة الثانية، كنت مع شقيقي في السيارة حين مرّت الرصاصة بيننا".
عاش القناص في ذلك الشارع لثلاث سنوات محتجزا عائلة الرمحي وبقية سكان الحيّ كالرهائن. لم يعرف أحد من يكون. في أحد الأيام غادر المكان، لكن الأثر الذي تركه في ذاكرة جيجي المراهقة لا يزال باقياَ.
انتشرت قصّة جيجي في جميع أنحاء ليبيا. اندثر تفاؤل الشباب الذي تحرر لتوه من سطوة الدكتاتور "معمر القذافي" ونظامه الأمني، وانزلق في أتون الحرب الأهلية. لقد حرم جيل الثورة من البنية الاجتماعية المتماسكة التي نعم بها أجيال الليبيون قبلهم، وابتلعت الفوضى التي نبذها الجيل القديم جيل الثورة وحاصرت مستقبل شبابه.
تشرح ناديا رمضان، 28 عام، أنّه "بعد الثورة، كان الجميع يتحدث في السياسة. كنا سعداء. كان الناس يحتفلون والإذاعات تضغ أغاني انكليزية. كنت أعمل في إذاعة طرابلس، والمجلات تملئ الأكشاك. ربما تذوقنا هذه الحرية لمدة عامين، في حين بدأت قلة قليلة من الناس تشعر أنّ الوضع يزداد سوءا يوما بعد بوم. ثمّ في عام 2014، بدأت الشركات بمغادرة ليبيا، ثم السفارات. أدركت حينها أنّ تحقيق ما كنا نأمل به سوف يستغرق وقتا طويلا جدا".
كنتيجة لغياب الدولة الفاعلة، بدأت العملة تفقد قيمتها وازدادت وتيرة انقطاع التيار الكهربائي. بدأ الليبيون يتبنون وجهات نظر أكثر تشاؤما حول أحداث عام 2011. خلصت دراسة Arab Youth Survey للعام 2018 أنّ 42% من الليبيين يأيدون الربيع العربي (من أعلى النسب في العالم العربي). إنّ المجتمع بعد عام 2011 تأسس على الفوضى، ولم يكن الجيل الأكبر سنا مجهزا لفهمه أكثر من الجيل الجديد الذي اضطر إلى التأقلم معه دون أي ضوابط أو إرشادات.
يقول الفنان أحمد بارودي الذي يعمل كمدير تنفيذي في شركة اتصالات: "بالنسبة إلي، كانت الحياة قبل الثورة مستقرة للغاية. كان عام 2010 أفضل عام بالنسبة إلي. كان لدي ما يكفي من المال لكي أعيش كما أريد وأسافر إلى أينما شئت... كانت لدي خطط للمستقبل. كنت آمل أن أتقاعد بحلول عام 2015 وأنا أركز فقط على فني، لكن كل ذلك ذهب مع الريح".
طه جواشي، 38 عاما، من سكان طرابلس، لم يشهد بحياته على إطلاق نار قبل عام 2011. منذ ذلك الحين، طغت هذه المشاهد على حياته: "كان جيلنا مختلف تماما عن جيل اليوم. لم يكن لدينا تكنولوجيا. كان الصحن اللاقط أفضل ما لدينا. لا انترنت ولا هواتف ذكية. كأننا نعيش في العصر الشيوعي. كان الجميع يملك الدراجة الهوائية نفسها".
على الرغم من سقوط أقربائه في الصراع الوحشي مع تشاد، إلا أن جواشي يعتبر أنّ طفولته كانت طبيعية. عندما كبر، بدأ يعمل كمرشد سياحي ناطق باللغة الفرنسية في طرابلس. وعلى الرغم من القيود المفروضة من الدولة، كان من الممكن التخطيط لمستقبل معقول. يقول جواشي: "كنت أفكر بتأسيس شركة سياحية على حسابي الخاص على الرغم من الصعوبات. فكان ينبغي الحفاظ على علاقة جيدة بالأجهزة الأمنية للسماح لي بإدخال السواح. لكن كان ذلك هدفي. لم أكن قلقا بشأن المستقبل، على عكس وضعي اليوم. كنت أخطط لحياة هنيئة في المستقبل وكان شراء منزل على سلم أولوياتي".
سافر عالم الانتروبولوجيا في جامعة لندن إيغور شيرستيتش كثيرا إلى ليبيا في فترة ما بعد الثورة متابعا كيف أغرقت الأموال والأسلحة الأجنبية موجة التفاؤل التي اجتاحت البلاد، وكيف وقع ثقل الفوضى على كاهل الشباب الليبي.
قال شيرستيتش أنّ: "التغيير الذي كان متوقعا لم يحدث. ففي المقابل، بات الشباب يواجهون عالما متوحشا لم يعرف أسلافهم كيفية التعامل معه. اندثرت الوظائف وقلّت ساعات التغذية بالتيار الكهربائي. كان الوضع أسوأ بكثير من الوصف. كانت الوحشية تسود".
وفي غياب تام للبنية والتماسك الاجتماعي، ظهر نوع من التبجح السطحي والتباهي الاستعراضي الذي تمثل بالمعارك الميليشياوية الانتحارية في مدينة سرت أو حتى بالقيادة الاستعراضية المتهورة للدراجات النارية في شوارع بنغازي. انتشر السلوك المتطرف والحس بالمخاطرة بشكل يصعب استيعابه للغرباء عن ليبيا.
إلى جانب وظيفتها في الفندق، واصلت رمضان عملها كصحفية ونجحت في اجتذاب عدد كبير من المتابعين على موقع تويتر من خلال نقلها لأحداث المعارك الشرسة، بين الميليشيات في طرابلس، عن قرب. تقول رمضان: "أشعر أنه من حقي أن أطلع الناس على حقيقة ما يجري في طرابلس وليبيا. كانت الثورة في ليبيا مركز اهتمام العالم بأسره، وفجأة لم يعد أحد يهتم بما يجري هنا".
بالنسبة لرمضان، سارع أشخاص ليبيون وأجانب إلى إعلان نجاح الثورة مدّعين ولو لإقناع أنفسهم أنّ حياة الليبيين أصبحت أفضل بعد نهاية حكم القذافي. أمّا هي، فتعتقد أنّ العكس صحيح: "على الجميع أن يروا ما يحدث على الأرض وكيف تتأثر يوميّات المواطن العادي بعد الثورة "الناجحة" على النظام".
لدى البعض الآخر ذكريات مختلفة عن الحرب الأهلية التي تحولت إلى شكل من أشكال الفوضى السطحية. تقول جيجي الرمحي أنّ "الأمر كان أشبه بالجنون. لكننا عشنا ونجينا. عند اشتداد الاشتباكات، كنت أصعد إلى السطح لأتمكن من رؤية المعارك. بعد وقف اطلاق النار كنت أشعر بالملل. في هذا النوع من التجارب، تصبح المسألة مسألة حياة أو موت. لا أعتقد أنّه ثمة أمر أكثر إثارة."
من مطبخها في تونس، تستذكر الرمحي الصدمات التي تعرضت لها في السابق. فتصف كيف لم تنم والدتها ليلا لانشغال بالها على أشقائها في الجيش وكيف كانت قذائف الهاون تتساقط حول منزلها. بالنسبة للرمحي وأصدقائها، إنّ النشوء في الفوضى في ليبيا بات تشويها لمعنى الحياة الطبيعية: "أعرف أنّ ذلك قد ألحق فيّ أضرارا وأعلم أني أصبحت مخدرة عاطفيا. الموت يحوّط أصدقائي وجيراني فيسقطون أرضا في أي وقت. يطلقون عليهم الرصاص في الشارع. كان عمري 21 عندما رأيت رجلا يُقتل في الشارع. شهدت على أربع حوادث مماثلة. لا أفتقد ذلك.فلا أحد يربح. لا شيء يبقى سوى الخسارة. أعرف ناسا من كلا الجانبين. لا أحد يربح".