يعبر المصور نادر الغادي، في مشروعه الذي عمل عليه لعدة سنوات، عن المتاعب التي واجهها الصوفيون في طرابلس وما حولها بعد سقوط نظام القذافي.
كانت ليلة باردة وهادئة من ليالي يناير/كانون الثاني ٢٠١٣ في طرابلس، بعد قرابة سنتين من سقوط معمر القذافي. الألعاب النارية تملأ السماء، يقفلون أصحاب المحلات أبواب محلاتهم المعدنية ليغادروا إلى منازلهم. وأنا أقترب من الجامع بدأت أسمع أصوات من الداخل تقول مدد – قصائد تقال في مديح الرسول – وفي الساحة كان هناك أصوات أولاد يلعبون.
لكن الأصوات كانت موترة، كهدوء ما قبل العاصفة. مسلحون صعدوا وتمركزوا على أسطحة الأبنية. كان الوضع يشير إلى معركة وشيكة. تبدلت الأجواء الروحانية التي كانت تجوب طرابلس القديمة.
لأول مرة، ومنذ عشرات السنوات، تحتفل طرابلس بعيد المولد النبوي الشريف في جو من الخوف والريبة. في مرحلة الفراغ الأمني الذي حدث بعد الثورة، أصبحت المجموعات المسلحة تستهدف الصوفيين في أماكن عملهم.
كمصور، وجدت أن موقف الصوفيين في ليبيا ومحاولات محي إرثهم موضوعاً مهم ويستحق تغطيته. التقيت بأبو بكر، صديق قديم وناشط، ذهبت معه إلى "حضرة" وهي احتفال ديني على الطريقة الصوفية، وإلى مزارات مهدمة.
كان أبو بكر يتلقى العديد من التهديدات من متطرفين على الرغم من أنه لا يعتبر نفسه صوفي بل شاب ليبي مهتم بتاريخ وحضارة بلده، تمنى تسليط الضوء على التسامح في الإسلام الذي كان في ليبيا لسنوات. لقد أخبرني أنه أحس بالضعف لكن في الوقت ذاته بعدم الخوف. لقد اعتبر الاعتداءات التي تعرض لها بالغادرة والمشينة.
قصة عبد القادر
نشأت في تاجوراء، في القسم الشرقي من طرابلس حيث يتواجد الأندلسيين، مكونين مزيج من الحضارات التركية، العربية والأمازيغية. في عطلات الصيف كنت أذهب إلى مدارس لتعليم القرآن (الزاوية) حيث التقيت للمرة الأولى بأبو بكر.
التقينا مجدداً في المدرسة الإعدادية، كان طالباً ذكياً لكنه هادئ، يدرس التاريخ والشعر. كما انه كان يتحصل على علامات تامة في العلوم والرياضيات. كان أبو بكر الوحيد في الصف الذي اختار دراسة الشريعة بدل الهندسة أو العلوم التي يختارها معظم الطلاب.
لقد تأثر بوالده الذي كان بروفسور في العلوم الإسلامية. ظهر تأثر أبو بكر بالجو المحافظ لعائلته في تصرفاته الهادئة والرصينة، حيث انصقلت نظرته إلى العالم في هذه الأجواء. كان من الشبان الذين تفادوا الحلفان حتى في فترة المراهقة، حيث كان أسلوباً للكلام اعتاد عليه معظم الشباب.
بعد المرحلة الثانوية ذهب للدراسة في مصر وسوريا، حيث تعرف على المعلم الصوفي المعروف، أحمد كفتارو، مفتي سوريا. عاد إلى ليبيا حاملاً شهادة جامعية في علوم الشريعة. كان معروفاً بعشقه للكتب، في بلد لم يعتد الناس فيه على قراءة الكتب في الأماكن العامة، وهذا ما دفعه للعمل لدى المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية في طرابلس.
أطلعني أبو بكر على هذه القصة خلال نشاطه السلمي لإنقاذ التراث الليبي، ليس فقط الصوفي، بل المواقع التاريخية المهملة. لقد خضنا في نظرة أعمق في الوضع الذي وصفه بالصعب. يعيش المجتمع الصوفي مختبئاً حيث العديد منهم يتعرض للمهاجمات والمضايقات.
أبو بكر، ناشط سلمي، كان يعمل جاهداً لزيادة الوعي بمجريات الوضع القائم. "الجهل في التاريخ والحضارة هو ما أودى بهؤلاء إلى هدمه وتحطيمه – من المحزن أن نرى تاريخنا يُمحى أمام أعيننا"، يقول أبو بكر.
الصوفية في ليبيا
كانت الصوفية بارزة خلال فترة الاحتلال العثماني والإيطالي في ليبيا، فقد كان للسنوسي دوراً كبيراً في تحرير ليبيا من الايطاليين. تراجعت مكانتها خلال فترة حكم القذافي، من جهة لأن ملوك ليبيا السابقين كانوا ينتمون للحركة الصوفية وأراد القذافي أن يمحي ذكراهم، والسبب الآخر يعود إلى بروز مدارس إسلامية أخرى في ليبيا وخصوصاً السلفية.
قبل عام ٢٠١١ كانت الصراعات حول الاحتفاليات والموسيقى قائمة لكنها غير ظاهرة للعيان، لكن في فترة ما بعد سقوط الحكم وانعدام الضوابط والقوانين اشتدت حدة النزاعات. بدأ كل من المتشددين السلفيين والجماعات المتطرفة بمهاجمة الصوفيين حتى أئمة المساجد. أرادوا السيطرة على المساجد وجميع المؤسسات الدينية ليحكموا بذلك السيطرة على الهوية الدينية في ليبيا. تم قتل وسجن العديد من الصوفيين حيث كانوا أول من تعرض لهذه الأحكام وبعدهم الأقلية الإباضية.
فقد الصوفيون العديد من جوامعهم، مزاراتهم وشخصياتهم البارزة، لكنهم ظلوا يمارسون طقوسهم، يصلون قرب الأنقاض ويحاولون المقاومة بشكل سلمي.
بعد الهجوم الذي تعرضت له مدرسة عثمان باشا في المنطقة القديمة في طرابلس وعمرها ٣٦٣ سنة، أخبرني أحد الشخصيات المعروفة لدى الصوفيين بأن ما حدث ليس بالشيء الجديد؛ لطالما حاول المتطرفين محو الحضارة الصوفية من تاريخ ليبيا. لقد شنوا حربهم الايديلوجية ضدهم فهم لا يريدون العيش معهم بسلام. "لم ينجحوا ولن ينجحوا"يضيق، "يمكن أن يتمكنوا من تدمير المباني التي تخصنا لكنهم لن يدمروا الصوفية في قلوبنا."
أسوأ ما في الأمر والذي يدعوا للصدمة بأن معظم المجتمع الليبي يتقبل الدمار الحاصل. معلم أثري عمره ٦٠٠ عام تم نسفه بالكامل. ضاعت الهوية الدينية الليبية وتم تهميش الصوفيين على الرغم من الارتباط الثقافي الوثيق بينهم وبين احدى أهم أعلام الاستقلال الليبي، عمر المختار وهو احدى أعضاء الحركة السنوسية التي دحرت الاستعمار.
في الصباح الباكر زرنا مزار الأندلسي في تاجوراء بعد التفجير. كانت لحظة محزنة مع أنه لم يكن لدي أي ارتباط روحي مع المكان لكنني شعرت بأنني خسرت شيئاً عزيزاً. تذكرت عندما كنت صغيراً، أسبح في البحر وأنظر إلى المزار لأحدد نقطة العودة إلى الشاطئ. كان يوماً محزناً للمدينة.قام عبد القادر وبعض الأصدقاء بحمايته قبل هدمه ببضعة شهور. كان تخريباً بلا هدف. أحد المتواجدين مكان التفجير قال – من دمره لن يستفيد أي شيء سوى أن الناس أصبحوا يقدسون هذا المكان أكثر.
في الوقت ذاته لفت انتباهي كيف أن العادات الصوفية جزء لا يتجزأ من مجتمعنا وأيضاً جزء من نشأتي. بعد فترة قصيرة من نشوب الثورة، عندما بدأت تتعرض كل من المزارات الصوفية، الزاوية والجوامع في جميع أرجاء البلد لهجمات واعتداءات، بدأت أدرك أصولي الصوفية. مع أنني لا أعتبر نفسي صوفياً لكنني أصبحت أقدر التاريخ الطويل للصوفيين في ليبيا.
يخطط أبو بكر لدراسة الدكتوراه في جامعة الزيتونة في تونس، احدى أقدم الجامعات في شمال أفريقيا. أخبرني أن هدفه هو إغناء معلوماته آملاً أن تجلب له السلام لعقله ومن ثم مجتمعه الذي يتمنى أن تتعايش جميع أطيافه مع بعضها بسلام بدلاً من الحقد والعنف السائدين.
مازالت المزارات الصوفية معرضة للهجمات حيث تم تدمير مسجد في غرارات بالكامل. الآن وقبل أيام من احتفالات عيد المولد النبوي وبينما الأوضاع أكثر هدوء، لم تنتهي القصة بعد.
ما هي الصوفية؟
هذا المصطلح مشتق من كلمة صوف. تضم مجموعة واسعة من أطياف الجماعات الإسلامية، يتشارك متبعيها في طرق عبادة متماثلة. هذه الطقوس الشعائرية، التي تهدف للوصل إلى معرفة الله، لديها بعض القواسم المشتركة مع طرق جماعات معرفية أصغر حجماً. الطرق الصوفية وجدت لدى السنة والشيعة. يرفض المتشددين، وخصيصاً المتشددين السنة، هذه الطقوس، مثل الرقص وعبادة الأولياء.