استغلت جماعة الدولة الإسلامية المتطرفة سيطرتها على سجن تدمر العسكري وتدميره لأغراضها الدعائية. ولكي نفهم رمزيّة هذه الدعاية، يجب أن ننظر إلى الماضي، وتحديداً إلى الأحداث التي حصلت هناك في صيف عام 1980.
عند ذكر مذبحة بالميرا (تدمر)، يفكر المؤرخين الأمريكيين بالمذبحة التي وقعت خلال الحرب الأهلية في امريكا. حيث قام العقيد "جون ماكنيل" بإعدام 10 سجناء حرب كونفدراليين في 18 تشرين الأول/أكتوبر 1862رداً على اختطاف أحد أنصار الاتحاد.
وجدت جمجمة الرجل المختطف، "أندرو آلسمان"، على ضفاف نهر المسيسيبي بعد 13 عاما من اختطافه. وتم الإحتفاظ بالجمجمة كتحفة من تاريخ الحرب الأمريكية، في حين تم بناء نصب تذكاري من الحجر في بلدة بالميرا الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها 4,000 نسمة، تكريماً لضحايا الكونفدرالية، الذين على الأرجح، لم تكن لهم أي علاقة باختفاء "آلسمان".
إن هذه الحلقة ما هي إلا مجرد مثال واحد لدور القصص التاريخية في ثقافة الذاكرة المحيطة بالحروب المؤلمة والتي تبني الهوية.
أن العلاقات الشخصية أو الرشاوى لن تنفع أي شخص هناك ولكن، من المستبعد ان يتم بناء مثل هذا النصب التذكاري لضحايا المذبحة التي وقعت في المدينة السورية التي تحمل نفس اسم البلدة الأمريكية، مدينة تدمر او "بالميرا" بالإنكليزية، وهي مدينة تاريخية اثريّة رائعة تتموضع في قلب الصحراء السورية، حيث وقعت أحداث غامضة في 27 حزيران/يونيو 1980.
لم يبدِ المسؤولون هناك الكثير من الاهتمام في دراسة ما حدث. بدلاً من ذلك، يبدو كما لو أن عائلة الأسد - الرئيس بشار الأسد ووالده الرئيس الراحل حافظ الأسد - قد استغلوا مدى عمق تأثير المذبحة هناك على الوعي الجماعي في سوريا. كما أن وصول الجمهور إلى المعلومات حول تطور الأحداث في ذلك التاريخ محدود، ويبرز ذلك بالنظر إلى التقديرات المتفاوتة على نطاق واسع لأعداد الضحايا.
في اليوم الذي سبق المجزرة، في 26 حزيران / يونيو 1980، نجا الرئيس حافظ الأسد من محاولة اغتيال على مدخل قصر الضيافة في حي أبو رمانة الدمشقي. وقد شكّل هذا الحادث تتويج رئيسياً مؤقتاً لسلسلة من أعمال العنف والإجراءات القمعية، - تصعيد في حرب يشنها النظام منذ عدة سنوات ضد المتمردين السنة، ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين. رجل سنّي من الحرس الرئاسي أردى القاتل، في حين رمى آخر علوي "خالد الحسين" بنفسه على القنبلة اليدوية، مضحياً بحياته من أجل الأسد.
أي شخص يهدد حياة الرئيس، تُفتح عليه أبواب جهنم.منقذ غير متوقع
عدم تنظيم احتفال عام للمنقذ أو تكريمه يشير إلى سياسة الأسد الأب، القائمة على خلق الانقسامات الدينية، ولا سيما ضد جماعته العلويين. حيث كان يمكن للأسد، في وقت محاولة الاغتيال، أن يستخدم قصة شهيد سني يؤيده لإرسال رسالة قوية للشعب؛ ولكن الشهيد العلوي لا يصلح لهذا الدور.
يقول حبيب أبو زر، وهو مؤلف ومفكر علوي كان مقرباً من النظام، بدأ بنشر مؤلفاته تحت هذا الاسم المستعار منذ عام 2013، أنه "وفقاً لمنطق الأسد، لا يمكنه الاستفادة من أن يكون مديناً للعلويين، فذلك سيضطره إلى إظهار الامتنان أو تقديم تنازلات". لم يكن الأسد يرغب في أن يكون مديناً للعلويين؛ ولكن كان من المناسب لقيادته أن يتحمل العلويون ذنب جماعي.
في غضون ساعات من الهجوم، كان النظام قد وضع خطة للانتقام. ومن الصعب تحديد ما إذا كان الرئيس قد وضعها بنفسه أو ترك الأمر لشقيقه رفعت. ولكن على الأرجح يبدو أن حافظ الأسد طبقّ تقنية الهيمنة التي يعتمدها من خلال خلق الارتباك العام وتعمدّ إبقاء قواته الأمنية في الظل. ولكن ألم يكن جعل قوات الامن التابعة له ينتقمون؛ من دون الحاجة إلى اتخاذ إجراءات بنفسه، ليخدم مصالحه على أفضل وجه؟ في كلتا الحالتين، كانت الرسالة واحدة: أي شخص يهدد حياة الرئيس، تُفتح عليه أبواب جهنم.
في الساعة الثالثة صباحاً من يوم 27 حزيران/يونيو، دُعيت الكتيبة أربعين من سرايا الدفاع، لاجتماع في غرفة العمليات في قاعدة عسكرية في دمشق. كانت السرايا نوعاً من الأجهزة شبه العسكرية النخبوية التي تلقت تدريب جزئي من قبل المدربين السوفيتيين وهي تحت القيادة المباشرة لرفعت الأسد. ويختلف أعضائها عن الجيش التقليدي ليس فقط بزيهم العسكري وستراتهم الواقية من الرصاص – إذ إنه أيضاً تم اختيارهم تقريباً حصرياً من الطائفة العلوية. تولى الرائد معين ناصيف، صهر رفعت، قيادة المهمة الدموية. ويُزعم أنه حتى خيّر الجنود ما إذا كانوا يريدون المشاركة.
أوضاع غير إنسانية في السجن
قال شاهد عيان في وقت لاحق أنّ كل من في الوحدة اختاروا المشاركة. بعدها، غادرت الوحدات مطار المزة العسكري في جنوب شرق دمشق وطارت في 10 هليكبتورات متجهةً نحو تدمر. هبطت حوالي الساعة السادسة صباحاً، عندما بدأت الشمس تشرق راميةً بشعاعها على معبد بل الشهير وأطلال تترابليون.
كان تقريباً جميع السجناء في تدمر في شهر حزيران/يونيو 1980 من الطائفة السنية. ووفقاً لتقديرات أفراد سرايا الدفاع، كان هناك 550 - 700 من المشتبه بهم كإرهابيين في السجن. وأشارت الحسابات اللاحقة الى أن العدد تراوح بين 1,100 و 2,000.
اقتحمت الوحدات، التي تم تقسيمها إلى ستة أو سبعة مجموعات من اثني عشر عنصر، زنازين السجن بأسلحتهم الرشاشة وقنابلهم اليدوية حتى لم يعد هناك أحد على قيد الحياة. وبعد حوالي النصف ساعة، أعادت الشاحنات تلك القوات إلى المهبط.
في المزة، كان اللواء ناصيف ينتظرهم مع خطاب شكر وإفطار سخي. تعرضت الوحدات لحالة وفاة واحدة وإصابة شخصين.
حتى عام 2011، كانت تدمر تشكّل إحدى الوجهات الأكثر شعبية وإثارةً للآثار القديمة في الشرق االأوسط وتأتي تفاصيل عملية الإعدام الجماعي هذه من مصدر موثوق من الذين على شاركوا في تلك الحادثة. في ذلك الوقت، كان عيسى إبراهيم فياض يبلغ 20 عاماً، وتتطابق تصريحات الجندي العلوي في سرايا الدفاع مع المعلومات المعروفة عن الأحداث التي وقعت في تدمر في ذلك اليوم، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى المعلومات والمصادر التي تم جمعها من قبل ميشال سورا، عالم الاجتماع الفرنسي والخبير في الشؤون السوريةفي الثمانينيات.
ونُشر تصريح فياض في 26 شباط / فبراير 1981 في صحيفة الرأي الأردنية. وكانت قوات الأمن الأردنية قد ألقت القبض عليه وعلى مقاتلين اثنين آخرين من "سرايا الدفاع" في عمان، خلال، حسبما يزُعم، إحباط هجوم على رئيس الوزراء الأردني مضر بدران، الذي كان مقرباً من جماعة الإخوان المسلمين وعدو لعائلة الأسد.
حتى عام 2011، كانت تدمر تشكّل إحدى الوجهات الأكثر شعبية وإثارةً للآثار القديمة في الشرق االأوسط، ما لم يكن في منطقة البحر الأبيض المتوسط بأسرها. إنها بلدة القوافل القديمة حيث اختلطت الثقافات العربية والرومانية القديمة، وتقع بجانب طبيعية صحراوية جبلية وبستان من أشجار النخيل التي تدين لها تدمر ليس فقط باسمها اللاتيني "بالميرا"، ولكن أيضاً باسمها السامي القديم: تدمر - بستان التَمْر.
بالنسبة للسوريين، كانت هذه الكلمة مرتبطة بروعة الماضي، ولكنها اتخذت الآن معنى مشؤوم أيضاً: فقد أصبح سجن تدمر العسكري أحد مراكز الاعتقال الأكثر وحشية في الشرق الأوسط. وحتى في حزيران/يونيو 1980، كان يشكّل بالفعل موقع تعذيب ممنهج، في حين أشارت الظروف داخل السجن إلى وجود نية صريحة بإبادة بعض السجناء.
لم تكن السلطات السورية مهتمة بتطبيق القواعد الدنيا لمعاملة السجناء الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1977، ويبدو أن سجن تدمر شكّل موقع مروع خاص. افاد ناجون من المجزرة، في تقرير أعدّته منظمة العفو الدولية عام 2001، فضلاً عن مصادر أخرى، عن تعرضهم لجلد منتظم، وأحياناً يومي وغيره من أشكال التعذيب. تعذيب قاسي، وعديم الفائدة. لم يكن السجناء يخضعون للاستجواب؛ كانت تتم معاقبتهم فحسب.
كان الحرس يضربون السجناء بقضبان حديدية ويجبرونهم على أذية بعضهم البعض. وتحدث سجناء سابقون أيضاً عن إجبارهم على الخضوع لحمامات دم، حيث يتم إجبارهم على الخضوع لهذا الطقس. وقد كان ذلك يحدث بشكل أساسي في فصل الشتاء، حيث يجبرون على النزول إلى حمام ببرودة الثلج بجراحهم المفتوحة. كانت تلك الأفعال طقوس للنظافة القسرية حيث كانوا يستحمون بدم زملائهم حرفياً.
على الجانب البيروقراطي لأنشطة السجن، ذكرت منظمة العفو الدولية أيضاً عن وجود قانون ساخر. عندما يتوفى سجين نتيجةً للتعذيب بالضرب بقضبان حديدية أو ضربات على الرأس بالكتل الاسمنتية، على سبيل المثال، يصف عادةً أطباء السجن أسباب الوفاة باعتباره "سقوط مفاجئ إلى الخلف في غرفة مظلمة"، أو "أخذ أدوية غير موصوفة من قبل طبيب أو المسؤول الصحي ".
تقسيم السجناء بحسب الخلفية الدينية
أحد أساليب العقاب الممنهج؛ لا يزال يستخدم حتى يومنا هذا في السجون السورية التي تديرها المخابرات العسكرية؛ يقوم على استخدام الجنود الفارين والجانحين لتعذيب السجناء الآخرين. وتتطابق تقارير قدمت من قبل بعض الناجين من بداية الثمانينيات أيضاً مع معلومات حصلت عليها مجلة زينيت مؤخراً.
في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، أبلغ موظف سابق في جهاز الاستخبارات التابع للقوات الجوي السورية مصدر في مجلة زينيث أنه عندما دخل إلى مركز اعتقال تابع للمخابرات العسكرية في حمص في ذلك الصيف، كان يتم فصل السجناء ومعاملتهم بشكل مختلف بحسب خلفيتهم الدينية. وأفاد أنه كان يتم احتجاز السنّة المتهمين بالمتمرد أو الإرهاب بأعداد تصل حتى ٢٠ معتقل في كل زنزانة تتراوح مساحتها من 8 إلى 10 أمتار مربعة فقط. هناك، كانوا يعانون من الحرمان من النوم والأمراض المعدية وسوء التغذية المنتظمة. وكان السجناء يتعرضون أيضاً للاختناق بانتظام بسبب قيام الحراس بإيقاف نظام التهوية.
"أن العلاقات الشخصية أو الرشاوى لن تنفع أي شخص هناك" يقول المصدر.
حتى بالنسبة لسوريا بسجلها المروع على صعيد حقوق الإنسان، شكّلت مجزرة سجن تدمر، بصورة خاصة، مثالاً مخيفاً لوحشية الدولة ووفقا لهذا المصدر، كان يتم أيضاً احتجاز السجناء العسكريين العلويين في هذا السجن لارتكابهم جرائم جنائية مختلفة مثل سرقة الأسلحة والمواد من مخازن الجيش. وكانت أماكن إقامتهم أكثر راحةً بعض الشيء، ولكن كانوا يجبرون على إيذاء السجناء السنة، كما كان يجبر "السجناء العسكريين" في تدمر في الثمانينيات، بحسب المصدر ذاته.
بينما كان أولئك "المساجيين العسكرين" الذين كانوا شديدي التوق لهذه المهمة بشكل خاص، كان بانتظارهم ظروف أفضل أو إفراج مبكر. ووفقاً لمصدر زينيث، ليس لديهم أدوات تعذيب خاصة، بل يعتمدون على على أيديهم وأرجلهم لضرب وركل وخنق ضحاياهم.
إنّ هذا النهج الساخر هو نهج فعال من حيث التكلفة يحمي موظفي السجون ويترك الأعمال القذرة للسجناء الذين لديهم متسع من الوقت والطاقة. غير أنّ أحد الآثار الجانبية الذي يبدو أنه متعمد، هو الكراهية الصارخة التي يغذيها بين الجماعات الدينية. ووفقاً لهذا المنطق، يعذب العلويون السنة، بدلاً من أن تعذّب سلطات الدولة الإرهابيين المشتبه بهم. وبهذه الطريقة، يدعو العلويون إلى كراهية الأغلبية السنية، مما يفرز فكر "الإنتقام من أعدائهم" بغض النظر عن مدى قربهم من النظام.
مثال ورادع
مما لا شكل فيه أن هذا التكتيك القمعي ليس قائماً على الانقسامات الطائفية فحسب، ولكنه يستغل أيضاً الكراهية وانعدام الثقة السائدين بين الجماعات الدينية المختلفة. في تدمر، أتى العديد من السجناء ليموتون، وليس لقضاء مدة العقوبة. معظمهم كانوا من المشتبه بهم في تنفيذ هجمات إرهابية أو التخطيط لقلب نظام الحكم واستبداله بالإخوان المسلمين.
حتى بالنسبة لسوريا بسجلها المروع على صعيد حقوق الإنسان، شكّلت مجزرة سجن تدمر، بصورة خاصة، مثالاً مخيفاً لوحشية الدولة. ولكن الجانب الأبرز للمجزرة كان إظهارها بصورة جريمة جماعية ارتكبها العلويين ضد السنة.
تداعيات بعيدة المدى
ليس من قبيل الصدفة، في ذلك الوقت، أن صحيفة تشرين البعثية نشرت "تعليق ضيف" بعد بضعة أيام؛ من المجزرة؛ من قبل رفعت الأسد، شقيق الرئيس حافظ الأسد. وتمشياً مع تقاليد النظام، ادعى عكس ما كان يحصل في الواقع. وقد ناشد بوحدة الأمة السورية والقضية العربية و"المقاومة"، وما كان يعني بها سوى الصراع مع إسرائيل. وأفاد أن "أعداء الأمة"، جماعة الإخوان المسلمين، كانوا أيضاً "أعداء الحضارة". فهم "يستخدمون ويحورون ويشوهون الإسلام" لتحقيق أغراضهم.
لم تتم مناقشة مجزرة تدمر علناً أبداً في سوريا في عهد حافظ أو بشار الأسد وتحدث "رفعت" أيضاً عن تاريخ سوريا، وكيف أوقف شعبها المغول والمماليك والصليبيين والعثمانيين والقوى الاستعمارية الأوروبية. وأضاف قائلاً "اننا لا نريد أن نؤذي أحداً، ولكننا لن نقبل بأن نتعرض للأذى." ومن غير الواضح ما الذي عناه بـ "نحن" - العلويين؟ البعثيين؟ النظام؟
وقد احتلت مجزرة السجن حيزاً كبيراً في مناقشة وحشية النظام، وكذلك "الشعور بالذنب الوراثي" لدى العلويين. في 26 حزيران/يونيو 2011، الذكرى الحادية والثلاثين للمجزرة، تظاهر بضع مئات من السوريين في شارع بنسلفانيا في واشنطن العاصمة ضد القمع القائم في بلادهم. وفي ذلك الوقت، كان المحتجون لا يزالون يلوحون بمجموعتين من الأعلام: راية الاستقلال (الخضراء والبيضاء والسودات)، بالإضافة إلى العلم السوري القومي (الأحمر والأبيض والأسود) الذي نجده في الواقع في المظاهرات المؤيدة للأسد.
لم تتم مناقشة مجزرة تدمر علناً أبداً في سوريا في عهد حافظ أو بشار الأسد. لكن النظام لا تزعجه الشائعات والتكهنات التي ترددت حول التفاصيل البشعة وعدد الضحايا، ويبدو أن هذا ضمن نهجه التكتيكي.
تشكّل آلة الموت مثال ورادع يخدم النظام بمجرد ان ببدأ أي حراك. وفي الوقت نفسه، لم يكن مضرّاً نشر رواية لا تحمّل "أب الأمة"، حافظ الأسد، مسؤولية المجزرة، ولكن تلقي المسؤولية على شقيقه رفعت؛ الذي خسر بعد ذلك شعبيته؛ وعصابة من الذين تملؤهم الكراهية. اكتسى رفعت الأسد واتباعه العلويين بصبغة "جزّاري تدمر"، حيث أمكن لحافظ أن يصبح لاحقاً المنتصر على كل سوريا.