على مدى عقودٍ من الاستبداد، كان ادّعاء "العلمانية"، ومايزال، أحد الأدوات التي استخدمها النظام السوري لتسويق حكمه ساعياً للظهور كـ"حامي الأقلّيات" في مواجهة التطرّف الإسلامي، وترويج خدماته كشريك في محاربة الإرهاب، والعمل ضد انتشار الأصولية الإسلامية.
آلة النظام الدعائية وعلاقاته العامة واظبت على دعم ادّعاءاته بشتى الوسائل، كالتذكير بصراعه الدموي ضد الإسلاميين في الثمانينات، والشعارات القومية لحزب البعث التي تمثل الغطاء الأيديولوجي المزمن للنظام.
نجحت تلك الدعاية نسبيّاً، فإلى جانب مرتزقة ومأجورين يدعمون النظام، يوجد اليوم ساسةً وكتّاباً وصحفيين غربيين وعرباً مقتنعين بشكل جدّي بمزاعمه العلمانية، ورغم جرائمه المستمرّة بحقّ الشعب والحالة الكارثية التي أوصل البلاد إليها، واعتماده على ميليشيات دينية طائفية لتثبيت سلطته، رغم ذلك يروّجون له ويدافعون عن بقائه بحجّة رفضهم أن يحلّ المتطرّفون محلّ "النظام العلماني الوحيد في المنطقة". لكن، هل هو نظام علمانيّ حقّاً؟
ليس هذا مجال الخوض النظري والتاريخي في موضوع العلمانية. المهم في سياق المقال تأكيد مسألتين جوهريتين يقود إليهما تتبّع التطور الدلالي، الاصطلاحي والمفهومي، للعلمانية وما استقرّ عليه استخدام اللفظ ومعناه في الفكر السياسي وفي التجارب العملية الأكثر نجاحاً، ومعاينة "علمانية" النظام المزعومة في ضوئهما وقياسها عليهما، فإنّهما يشكّلان تكثيفاً لجوهر العلمانية، ويمكن اعتمادهما كمعيارين قياسيين، حيث تسقط صفة "العلمانية" عن أيّ نظام حكم أو دستور لا يلتزم بهما.
المسألة الأولى تتبلور في العبارة الشهيرة "فصل الدين عن الدولة"، بما تعنيه من إلغاء دور الدين في السياسة، والفصل بين المجالين الديني والدنيوي، والحدّ من تدخّل الدين في شؤون البشر الدنيوية. والمسألة الثانية تلخّصها مقولة "دولة المواطنة المتساوية"، بوصفها مجالاً عامّاً، ودولة لجميع مواطناتها ومواطنيها بالتساوي ودون تمييز بينهم، بما تنطوي عليه من خصائص العمومية والحيادية، دون مفاضلة بين الأفراد والجماعات استناداً لانتماءاتهم ومعتقداتهم الدينية أو الدنيوية.
منذ استيلائهم على السلطة اعتمد البعثيون على الطوائف والصلات الدينية كإحدى وسائل تدعيم حكمهم. وهذا السلوك يتعارض مع مبادئ العلمنة، ولا يراعي حتى القشرة الأيديولوجية القومية التي غلّفت نظامهم العسكري الشمولي، أو النزعة "التقدّمية" التي نسبوها لأنفسهم. لم تدم طويلاً مرحلة "ديكتاتورية الحزب"، حيث انتهت الخلافات والتصفيات داخل النظام العسكري/البعثي الناشئ إلى "ديكتاتورية الفرد"، بسيطرة حافظ الأسد على الحكم (نوفمبر 1970)، وانفراده بالسلطة على رأس الجيش والحزب والدولة، حتى وفاته (حزيران 2000) وتوريث الحكم لابنه بشّار. أسّس الأسد الأب نظاماً رئاسياً يمنح رئيس الجمهورية صلاحيات مطلقة، وفق "الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية"، الذي نصّ على قيادة "حزب البعث" للدولة والمجتمع.
تضمّن دستور الأسد نصوصاً تتناقض فيما بينها، وتدحض مزاعم القائلين بأنّ سوريا يحكمها "نظام علماني". فقد نصّ أنّ "دين رئيس الجمهورية الإسلام"، أي إن الانتماء إلى دين محدّد عامل حاسم في اختيار من يشغل أهمّ منصب في نظام رئاسي. هذه الفقرة تتعارض مع فقرة دستورية أُخرى تنص على أن: "المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، وتكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين". فكيف تتساوى الحقوق والواجبات في بلد لا يجيز دستوره لغير المسلم تولّي الرئاسة، مع وجود مواطنين من أديان مختلفة؟ كما أعطى الدستور مكانة تفضيلية للدين الإسلامي، حيث عدّ الفقه الإسلامي مصدراً رئيسياً للتشريع، بينما يفترض بالعلمانية الفصل بين الدين والقوانين.
علاوة على ذلك، اختُزلت الجمهوريةَ إلى "دولة البعث" بحصر قيادة البلاد بحزب البعث. هذا تناقض مع مبدأ عموميّة الدولة ويلغيها بتخصيص السلطة لحزب بعينه، وجعل أيديولوجيته أيديولوجيا للدولة، بينما تفترض العلمانية حياديّة الدولة حيال العقائد والأيديولوجيات كافة. ورغم أنّ النظام عدّل الدستور في بداية الثورة وألغى المادة الخاصة بحزب البعث لكن الواقع لم يتغيّر.
في الدستور الجديد والذي جاء ضمن الإصلاحات الشكلية، كإحدى محاولات النظام لاحتواء الثورة، استمر التمييز بين المواطنين على أساس الدين، وإعطاء دور تشريعي له، كالقول: "دين رئيس الجمهورية الإسلام. الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع". وأضيفت فقرة جديدة تنصّ على أن "الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية"، علماً أنّ قوانين "الأحوال الشخصية" في سوريا تقوم بالكامل على المرجعيات الدينية للطوائف حتى قبل الدستور الجديد، وهذه من أدلّة زيف علمانية النظام أيضاً، لكنّ إدراج ذلك في الدستور يعني تأكيداً دستوريّاً على مبدأ "الهويات ما قبل الوطنية/ المواطنية للأفراد"، والنظر إليهم لا كمواطنين مستقلين وإنما كأعضاء في طوائف دينية مختلفة، والإقرار بسلطة دينية تدير أحوالهم الشخصيّة؛ في تناقض مع المواطنة المتساوية وسيادة القانون الوضعي، اللتين هما خاصّيتان أساسيّتان للعلمانية.
كل ما سبق لا مجال معه للحديث عن نظام علماني مطلقاً، فلا يجوز في العلمانية اشتراط الانتماء لدينٍ ما لشغل منصب عام أيّاً يكن، ومهما تكن النسب المئوية لتوزّع مواطني الدولة على الديانات والمذاهب. إنهم مواطنون متساوون، بهذا يُعرّفون وليس بانتماءاتهم الدينية. كذلك الحال مع تمييز حزب وأتباعه عن سواهم من المواطنين، أيّاً كان هذا الحزب، فهذا يناقض مبدأي المساواة بين المواطنين، وحيادية الدولة وعموميتها. ينطبق هذا الكلام على الدول الشيوعية وحكم الحزب الواحد فهي لم تكن دولاً علمانية، خلافاً لما يقوله خصوم العلمانية في تعمّدهم الخلط بين العلمانية والإلحاد. فالدول الشيوعية لم تقم بـفصل الدين عن الدولة، ولا كانت دولة لجميع مواطنيها، بل على العكس حصرت الحكم بـ"حزب الطبقة العاملة" فألغت عمومية الدولة، وتبنّت عقيدة "إلحادية" ناصبت الأديانَ العداء ودخلت في معركة ضدها فلم تكن محايدة حيال الأديان والعقائد، وهي بالتالي لم تكن دولاً علمانية حقيقية، بل متأدلجة علمانيًّا، وقد حاربت الدين. الدولة العلمانية الحقيقية لا تحارب الدين، بل تتيح حرية الدين للجميع.
زيف علمانية النظام يتكشّف أكثر فأكثر في ممارساته العملية. ففي الوقت الذي واجه المعارضة الإسلامية بالحديد والنار سحق معارضيه العلمانيين من الأحزاب اليسارية والقومية. في الوقت نفسه أبدى الأسد تساهلاً ومراعاة كبيرين لمظاهر الأسلمة في المجتمع.
إنّ العدد الهائل من المساجد التي بنيت بأموال الحكومة في عهد الأسدين، ومواظبتهما على الصلاة في المسجد بمواكبة إعلامية في المناسبات الدينية، و"معاهد الأسد لتحفيظ القرآن" هي جزء من ذلك؛ لا يقلّ أسلمةً وتطييفاً للمجتمع. كما أنّ تحالف الأسد مع إيران الإسلامية، أتاح لنظام الملالي إرسال بعثاته التبشيرية وتمويل حملات التشيّع في سوريا. وأخيراً يتضّح اعتماد الأسد على الميليشيات الطائفية القادمة من لبنان والعراق وغيرهما من أجل "الجهاد" في سوريا ضد "المجاهدين" السنة!
إن الملامح العلمانية في سوريا لها تاريخها، ثقافياً واجتماعياً، ولم تكن "إنجازاً" للنظام بل على العكس تراجعت بشكل كبير بفعله، وقدّم ادعاؤه العلمانية نموذجاً سيئاً يستخدمه خصوم العلمانية لمحاربتها. مظاهر العلمنة في المجتمع والابتعاد عن التشدد كانت سمة عامّة رافقت التسامح الديني والاجتماعي النسبي في سوريا مقارنةً مع دول الجوار، وهي اليوم مهدّدة بشكل كبير نتيجة ازدهار مشاريع الجهاديين والتكفيريين، من السنّة والشيعة. هؤلاء المجانين سيكملون ما بدأه النظام، في القضاء على ما تبقّى من إمكانيات التسامح والعيش المشترك.
لقد حلم شبّان الثورة السورية الأوائل بالخلاص من الاستبداد وتأسيس دولة حديثة لجميع مواطناتها ومواطنيها. أرادوا دولة علمانية حقيقية، وليس علمانية زائفة على طريقة الأسد.