لا زال من المبكر الحكم على مآلات التيار الجهادي الجديد. ولكن من المؤكد أنه يشكل العدو الاول للتنظيمات الجهادية المعروفة (داعش والنصرة)، لأنه ينافسها ليس فقط على موارد وأشخاص التيار الجهادي، بل ينافسها أيضا على شرعية الوجود.
فسردية أحرار الشام تختلف اليوم بشكل كبير عن سردية القاعدة وداعش وتحمل رسالة واضحة بإن القاعدة وداعش لم تأتي إلا بالخراب والدمار لكل الدول التي حلت فيها وعلينا الآن ألا نعيد تجربة نموذج أثبت فشله عدة مرات فيما مضى.
قد نختلف كثيرا أو قليلا مع حركة احرار الشام ولكن لا بد من الاعتراف بانها تبقى كصمام أمان قادر على استقطاب اصحاب التوجه السلفي، اللذين كانوا سيتوجهون إلى داعش أو النصرة في حال عدم وجود هذه الحركة التي شكلت بالنسبة لهم بديل مناسب ومقبول.
تنظيم داعش وجبهة النصرة
خسرت جبهة النصرة حربها ضد تنظيم داعش، التي امتدت بين شهري شباط إلى حزيران ٢٠١٤، حيث استطاع تنظيم داعش طرد تنظيم النصرة من مناطق سيطرته في دير الزور التي تشكل له أحد أهم موارده المالية والبشرية. عقب ذلك حملة تصفيات كبيرة طالت القبائل التي تحالفت مع النصرة.
كما أن هذه الخسارة أدت إلى انسحاب ابو ماريا القحطاني (العراقي) الذي يمثل الوجه الاقل تشددا لدى النصرة إلى درعا وعزله من منصب الشرعي العام للنصرة وتعيين العريدي الاردني بدل عنه. فالعريدي معروف بتوجهه الاقرب لتنظيم داعش وبتشدده تجاه كل من يخالف المنهج السلفي الجهادي. كما أن مشايخه وأساتذته أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني كان لهم دور كبير في إبعاد النصرة عن الفصائل السورية الاخرى من خلال فتاويهم المتشددة والتي تكفر كل من يخالفهم.
أي أن خسارة الحرب مع تنظيم داعش انتهت أيضا بحسم الصراع الداخلي داخل النصرة لصالح التيار المتشدد والأقرب لتنظيم داعش في الفكر والممارسة. انعكست هذه الصراعات على تصريحات الجولاني في كافة مقابلاته التي تلت ذلك في أيار ٢٠١٥ وكذلك في كانون أول ٢٠١٥.
ولا بد من الاشارة إلى أن استهداف التحالف الدولي لتشكيلات وعناصر تنظيم النصرة أدى إلى دفعه بالاتجاه الأكثر ردايكالية في التعامل مع باقي فصائل الثورة السورية وخاصة تلك التي كانت تتلقى مساعدات من الولايات المتحدة الامريكية.
فبعد بدأ قوات التحالف بقصف مقراته قام تنظيم النصرة بمهاجمة جميع فرق الجيش الحر في الشمال التي تتعاون مع قوات التحالف أو تتلقى تمويلا أو دعما امريكيا مثل: جبهة ثوار سوريا بقيادة جمال معروف وحركة حزم.
تنظيم داعش وتنظيم النصرة يتشاركان نفس السردية (تعريفهم لذاتهم وتعريفهم لدورهم وماذا يريدون وكيف)، فهم ينتمون للتيار السلفي الجهادي الذي يؤمن بالجهاد كطريق وحيد من أجل الوصول إلى دولة اسلامية تقيم شرع الله وفق فهمهم له. لكنهم يختلفون بالتفاصيل (حول الزمان وأحيانا الكيفية، أي اختلاف ترتيب أولويات). تنظيم الدولة يعتمد التفسير الظاهري والحرفي للنص ويستند إلى مفهوم الغلبة بشكل مطلق، كما أنه يستعجل تطبيق مشروعه، في حين ترى جبهة النصرة ضرورة التريث كنتيجة لامتلاكها ترتيبا مختلفا للأولويات، تسعى للتفاهم مع الآخرين حيث أمكن وتلجأ للسياسة والتفاهمات حيث تستطيع، وهو الأمر الذي انتهى بهما كجماعتين متمايزتين، بل ومتحاربتين أحيانا وإن توافق تعريفهما نفسيهما بجماعة واحدة اتفقت في الغاية.
يتنافسون على نفس الموارد (أموال وأشخاص ومنظري التيار السلفي الجهادي). التنافس يدفعهم للتقاتل في بعض المواقع: (حقول النفط والمواقع الاستراتيجية في دير الزور والشمال السوري) والتقارب وشعورهم بالخطر المشترك في المناطق التي يشكلون فيها قلة قليلة حيث لا يوجد ما يستدعي التنافس بينهم يدفعهم للتعاون (الريف والجنوب الدمشقي). لن نتطرق هنا لأسباب انقسامهم في تنظيمين فهذا يحتاج إلى مقال منفصل. ولكن باختصار فإن النصرة أغلبه سوريون وأغلب شرعييه أردنيون وله توجه يختلف قليلا عن داعش الذي أغلب قياداته عراقية وأغلب شرعييه من الخليج.
إن اتفاق تنظيم الدولة وجبهة النصرة بالسردية الرئيسية أدى إلى سهولة التنقل للأفراد بينهما رغم اشتداد التوترات والاقتتال الواقع فيما بينهم أحيانا، في حين من الصعب تصور انتقال أفرادهما للانضمام إلى جماعة ذات تعريف مختلف لذاتها. أما العناصر الاكثر قدرة على التعلم والاكثر انفتاحا والتي ترى ضرورة اعادة النظر في كل الفكر الجهادي فقد انتقلت لحركة احرار الشام.
طبعا داعش والنصرة اليوم هم منظمات مصنفة في اغلب دول العالم على انها منظمات ارهابية ذات رؤيا عالمية تستعمل العنف لفرض ايديولوجياتها أو تحقيق غاياتها السياسية. ولكن من المؤكد أيضا ان هذين التنظيمين اليوم ليسا هما تنظيم القاعدة التي قامت بتفجيرات 11 سبتمبر 2001. فبعد 11 سبتمبر ضعفت السيطرة المركزية للقاعدة على فروعها المختلف نتيجة ظهور جيل جديد من القيادات. وكنتيجة للعولمة وتأثيرها في سرعة نقل الخبر والفكرة.
من حيث النتيجة تحولت القاعدة اليوم إلى رسالة ملهمة أكثر منها كتنظيم. أما فكرها الجهادي السلفي فقد خضع ايضا للعديد من التحولات في اتجاهات متباينة تماما. ففي حين اتجه تنظيم داعش نحو فكر راديكالي موغل في الوحشية لدرجة أن الظواهري نفسه زعيم تنظيم القاعدة وصفه بالتطرف، ظهر تيار جديد أعاد النظر بالتجربة الجهادية ككل بعين ناقدة وبات ينتج ممارسات تقترب في جوهرها من ممارسات حركات الاسلام السياسي المعروفة مثل الاخوان المسلمين. كما انه لازال هناك تنظيمات محلية أهمها تنظيم جبهة النصرة تؤمن بفكر القاعدة وتسعى للحفاظ عليه كما أسسه ابن لادن في افغانستان.
هذا المقال هو الجزء الثاني من ثلاثة اجزاء من بحث اكاديمي ودراسة للسلفية في سوريا. الجزء الأول: أثر التجربة السورية في الفكر السلفي. الجزء الثالث: التيار السلفي الجديد!