هناك نوعان من السلفية التي ألفنا وجودها وعرفنا افكارها منذ بدايات القرن الماضي، ولكن الحرب السورية انتجت فكراً سلفياً ناشئً يسعى لأن يبتعد عن السلفية الكلاسيكية التي نعرفها.
يتميز التيار السلفي الجديد باعتماده التوجه السلفي كفكر، إلا أنه يؤمن بالعمل السياسي كأحد الوسائل للتنافس على السلطة. أشهر رموزه ومؤسسيه اليوم هم قادة حركة أحرار الشام. حيث استطاعوا إجراء مراجعات عميقة وجريئة للفكر السلفي الجهادي، مكنهم من لعب دور توفيقي بين الجماعات العسكرية السلفية والأخرى ذات التوجهات المخالفة.
من الضروري الإشارة إلى الفرق بين السلفية الجهادية وبين التنظيمات الإسلامية التي تتبنى نظرية فرض الإسلام على المجتمع بقوة الدولة مثل حزب التحرير: حيث يشترك كلاهما بمفهوم ضرورة إيجاد الدولة الإسلامية من أجل إكمال أسلمة المجتمع ونشر الدين. فحزب التحرير على سبيل المثال وأمثاله من الجماعات السياسية الاسلامية هي في الأصل حركات سياسية تستخدم أدوات العمل الحزبي والسياسي وتعتمد الإسلام كمرجعية لها وفق الفهم الذي اختارته لنفسها، أما السلفية الجهادية فهي في الاصل نشأت كحركات دينية وليست سياسية ولكن طريقة فهمها للنص الإسلامي دفعتها لاقتحام العمل السياسي من خلال سعيها لتشييد نظام حكم محدد.
تطور السلفية الجهادية في الحالة السورية
منذ ظهور التيار السلفي الجهادي المنظم في هيئة القاعدة لم يكن هناك من ينازع أسامة بن لادن على زعامة هذا التيار ولم نشهد تضارب في الفتاوي أو الخطاب داخل هذا التيار. ومن أهم خصائص هذا التيار التي أعطته فرادته وميزته عما سواه من تيارات سلفية أخرى معاصرة:
1) العدمية السياسية: ظهرت السلفية الجهادية كنوع من التمرد على واقع الدولة المستبدة والفاقدة للسيادة، المستسلمة للإرادات الخارجية والمتنمرة على مواطنيها، فكانت الاوتوبيا التي يطمح إليها هي النموذج التاريخي الذي حكم الممالك الاسلامية في عصورها الذهبية. كما أن استحالت تحقيق الاوتوبيا المتخيلة في الزمن الحديث جعل الجهاد كوسيلة لمحاربة الاعداء غاية في حد ذاتها وليست وسيلة لتحقيق غاية سياسية ممكنة. مما جعل خطابه السياسي يتصف بالعدمية في سياق العصر الحديث القائم على الدول القومية.
2) الاستعلاء والتكبر على الحواضن الاجتماعية والتيارات الاسلامية الاخرى: لا تختلف السلفية الجهادية عن غيرها من المدارس السلفية في تبنيها لنظرية فرض الإسلام على المجتمع بقوة الدولة، حيث تعتقد السلفية على العموم بضرورة إيجاد الدولة الإسلامية من أجل إكمال أسلمة المجتمع ونشر الدين الإسلامي. إلا أن السلفية الجهادية هي حركة دينية وليست سياسية في الاصل، ولكن طريقة فهمها للنص الإسلامي دفعتها لاقتحام العمل السياسي من خلال سعيها لتشييد نظام حكم محدد. وبالتالي فهي ترى أن من يشاركها هذا الفهم فهؤلاء هم "أخوة المنهج" ويمكن التعامل معهم. وباقي الناس ينقسمون ما بين "عوام" وهم عموم الشعب الذي يجب أن يخضع لحكمهم وينفذ الاوامر بدون نقاش، أو "المرتدين" وهم جميع من خالفهم من المسلمين، أو "الكفار" وهم جميع من تبقى في العالم من غير المسلمين. الامر الذي جعلهم نخبة فوق البشر وفوق المجتمعات التي يقيمون بينها. والأمر الذي حول الخلافات السياسية بينهم أنفسهم إلا خلافات دينية انتهت باتهامهم لبعض بالردة والكفر وحملهم السلاح ضد بعضهم كما شاهدنا في حالة تنظيم داعش وجبهة النصرة.
3) فقدان المكون الإنساني: النظرة الاستعلائية، التي ذكرناها، بالإضافة إلى التقيد الصارم بظاهر النص الديني أنتجت مجموعات من البشر فاقدة للرحمة وللحس الإنساني بالمجمل. حيث يتم التعامل مع كل من يتم تصنيفه على أنه ليس من أخوة المنهج على أنه ليس إنسان. بل هو كائن أو شيء يخضع للأحكام والقوانين التي يمليها عليهم المنهج ويستنبطونها من النص الديني. الشواهد هنا أكثر من أن يتم تعدادها: مثل قطع رؤوس الاسرى، المجازر الجماعية في القبائل المهزومة (الشعيطات كمثال)، أو استرقاق النساء الإيزيديات كل هذه أمثلة للسلوكيات الناتجة عن فقدان المكون الإنساني.
يمكن الجزم بإن هذه الخصائص الثلاثة يمكن تتبعها في كافة الحركات السلفية الجهادية عبر العالم بلا استثناء حتى عام ٢٠١٢. إلا أن التجربة السورية سمحت بظهور تيار سلفي جهادي جديد أخذ يتمايز عن السابق في هذه النقاط الثلاثة. ويمكن أخذ حركة أحرار الشام كأفضل مثال لهذا التيار بل كمؤسس عملي له. حيث قام قادة هذه الحركة بإجراء مراجعات علنية للفكر السلفي الجهادي، ثم أطلقوا عدة تصريحات تعبر عن التراجع عن الفكر الجهادي، آخرها كان الاعتذار الصريح للمفكر الرئيسي لحركة أحرار الشام أبو يزن الشامي عن كافة الممارسات المستندة للفكر الجهادي وتوبته منه وتوبة حركته أيضا من هذا الفكر المدمر. حيث قال قبل موته بأيام قليلة: “نعم أنا كنت سلفيًا جهاديًا وحبست على هذه التهمة في سجون النظام، واليوم أستغفر الله وأتوب إليه وأعتذر لشعبنا أننا أدخلناكم في معارك دونكيشوتية كنتم في غنىً عنها، أعتذر أننا تمايزنا عنكم يومًا، لأني عندما خرجت من السجن الفكري الذي كنت فيه واختلطت بكم وبقلوبكم قلت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، عندما قال “إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم”؛ أعتذر منكم، وإن شاء الله قابل الأيام خيرٌ من ماضيها لثورتنا ولإسلامنا”.
تجدر الإشارة إلى اغتيال كافة قادة احرار الشام بعملية غامضة في ٩ أيلول ٢٠١٤. مما أدى إلى اضعاف هذه الحركة بشكل كبير، إلا أن الحركة ما لبثت ان استعادت عافيتها من جديد. وتابعت المسير في الاتجاه الاصلاحي الذي بدأه القادة المؤسسون قبل اغتيالهم. فقد كان شعار احرار الشام حتى شهر آذار 2015 هو "مشروع أمة" وهو الشعار الذي ُوضع في ميثاق الجبهة الاسلامية التي تأسست في نوفمبر 2013 كي تضم الفصائل الاسلامية المقاتلة لنظام الاسد في سوريا. وهذا الشعار يعبر عن أن مشروعها هو بناء دولة اسلامية لكافة المسلمين. ولكن منذ إعلان الاندماج مع مجموعة صقور الشام (2015/3/22م)، والتي تتبنى أيضا الفكر الجديد المنبثق عن هذه المراجعات، تم الانتقال إلى شعار "ثورة شعب"؛ وهو الشعار الذي أصبح يوضع في إعلام الحركة وبياناتها. حيث يعبر هذا الشعار عن أن الثورة السورية هي ملك للشعب السوري ككل وليست ثورة اسلامية حكرا على مجموعة من الشعب السوري.
ويعد هذا التغيير نقلة كبيرة في خطاب وسياسات مجموعات كانت تعرف نفسها على أنها مجموعات جهادية. الامر الذي أدى لتعرضهم للتشكيك والهجوم من المنظرين التقليديين للتيار الجهادي مثل أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني. ثم في ٢٤ آب ٢٠١٥ أصدرت الحركة عدة قرارات ووثائق أكدت على "سوريّة" الحركة من حيث العناصر والمشروع ونفي أي علاقة تنظيمية تربطها بالنصرة.
ومن ضمن هذه القرارات كان قرار عزل العديد من القادة المحسوبين على التيار المتشدد مثل القاضي (أبو شعيب المصري) الذي انتقد مقالات عضو المكتب السياسي للحركة ورئيس قسم العلاقات الخارجية "لبيب النحاس"؛ الذي ظهر على الساحة في ٢٠١٥ من خلال قيامه بشرح قضيته باللغة الانكليزية في صحيفة نيويورك تايمز وفي الديلي تلغراف مخاطبا الرأي العام الغربي وصناع القرار في الغرب.
ويعتقد المراقبون أن في ذلك إشارة لبراغماتية ناشئة عند الحركة من حيث قبولها وقدرتها على تعلم أدوات وقواعد اللعبة السياسية في العصر الحديث بدل تبني خطاب تكفير الغرب ومحاربته والانقلاب على كامل منجزات الحداثة. وكذلك فأنهم أرسلوا ممثل لهم لمؤتمر الرياض في ٩ و١٠ ديسمبر ٢٠١٥ ولم يرفضوا مؤتمر جينيف قبل ذلك. فرغم أنهم حركة جهادية تسعى للانتصار على الاسد بالمقاومة المسلحة، إلا أنه يبدو أنهم أصبحوا يؤمنون بضرورة التفاوض السياسي من أجل التوصل لحلول سياسية تشاركية تحقن الدماء.
أما على المستوى الداخلي فسعت الحركة لتسليم الادارات المحلية لمن تثق بهم من المدنيين ولم تسعى لمباشرة الحكم المحلي بنفسها كما فعلت جبهة النصرة أو داعش على سبيل المثال.
طبعا لا زال هذا التوجه الفكري والايديولوجي في بداياته رغم اتضاح بعض معالمه وتمايزه عن التيار الجهادي الذي نعرفه. لذلك لا داعي للتوضيح بإن هذا التوجه ليس محل اجماع لدى كافة قادة واعضاء الحركة حيث هناك انقسامات واختلافات داخل الحركة لدى كل قضية مفصلية مثل مؤتمر الرياض أو جينيف من قبله أو طريقة التعامل مع داعش أو مفاوضة النظام. يعتقد بعض المراقبين الخارجيين أن هذه التصريحات المتضاربة هي ليست أكثر من تبادل للأدوار في تمثيلية مفضوحة بين قادة الحركة. لكن مقابلات صحفية اجراها الكاتب مع بعض قادة الحركة أكدت أنه ليس هناك أي تمثيلية أو تبادل للأدوار وإنما خلافات قد تصل أحيانا لدرجات عالية من التوتر بين تيار منفتح يسعى للتأقلم مع العالم والعصر الحديث ويرفض الدخول في عداء شامل مع العالم على أسس عقدية ودينية، وبين تيار أكثر تشددا يسعى للحفاظ على ما يسميه ثوابت العمل الجهادي.
وفي خضم هذا الصراع يسعى منظّروا التيار السلفي مثل أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني (كلاهما من أصل فلسطيني ويقيمان في الاردن) لتكفير التيار المنفتح كما شاهدنا في تعليقاتهم على نتائج مؤتمر الرياض. رغم ذلك تتمتع الحركة ببنية مؤسسية جيدة ساعدتها على تجاوز كارثة اغتيال قيادات الصف الاول والثاني في ٩ أيلول ٢٠١٤ دون أن تؤدي إلى تفكك الحركة، كما حصل مثلاً للواء التوحيد بعد وفاة قائده عبد القادر صالح، وتساعدها كذلك على تجاوز الخلافات دون حدوث انشقاقات كبيرة حتى الآن داخل صفوفها.
وفي النهاية يمكننا التلخيص بإن تجربة التيار الجهادي في سوريا فرضت على قادته السوريون مراجعات عميقة كان نتاجها تيار سلفي غير عدمي يسعى لصناعة نموذج متصالح مع مجتمعه ويسعى لحمل مشروع وطني.
هذا المقال هو الجزء الثالث من ثلاثة اجزاء من بحث اكاديمي ودراسة للسلفية في سوريا. الجزء الأول: أثر التجربة السورية في الفكر السلفي. الجزء الثاني: العداوة المتصاعدة بين التيار السلفي الحديث والقديم