يوجد في سوريا اليوم عدة تنظيمات إسلامية تقاتل النظام. بعضها يعد من التنظيمات الراديكالية التي تسعى لفرض نموذجها الإيديولوجي بالقوة بالاعتماد على ما يسمونه “نموذج التمكين”؛ أي الوصول إلى السلطة ثم فرض نموذجهم في الحكم القائم على فهمهم للإسلام.
قد لا يشكل أتباع التنظيمات المتطرفة أغلبية عددية في الحالة السورية، ولكنهم يتميزون بالفعالية العالية نتيجة الاندفاع القوي الناتج عن الإيمان الراسخ بصحة ما يعتقدونه، بالإضافة للتمويل الجيد المتدفق من شبكات دعم الجهاد العالمي التي تشكلت خلال الأربعين سنة الماضية والتي استطاعت مراكمة العديد من الخبرات.
على رأس هذه التنظيمات يقع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الذي انبثق من رحم منظمة القاعدة التي تمرد عليها ويحاربها اليوم. يستند هذا التنظيم إلى تيار السلفية الجهادية ويتميز عن غيره من التنظيمات بفعالية عالية نتيجة ضمه أغلب المقاتلين الأجانب الذين جمعوا خبرات طويلة في حروب العصابات في أفغانستان والعراق والشيشان وغيرها من ساحات الحروب في القرن الماضي. كما أنه تميز عن القاعدة بشدة تطرفه واستسهاله لقتل المدنيين مستخدما أبسط الحجج وأوهاها، مما دفع أيمن الظواهري زعيم منظمة القاعدة لاتهامهم بالتطرف في تسجيلين صوتيين له أذيعا عبر اليوتيوب في ٩ يونيو/حزيران ٢٠١٣ وفي ٨ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٣وطالب بحلها بعد أن برأ نفسه وتنظيمه من أفعالها.
ينطلق قادة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (اختصارا داعش) من تصور إيديولوجي يقتضي بأنهم يقيمون دولة الإسلام في الأرض مستخدمين في ذلك أدوات ومسميات الحكم التي سادت قبل أكثر من ١٠٠٠ عام، وبشكل خاص فيما يتعلق بقانون العقوبات. ولكنهم رغم ذلك يعتمدون في ممارساتهم الفهم الحديث لمعنى الدولة القومية، المنبثق عن النموذج الحداثي للدولة من حيث تدخلها وتحكمها في أغلب المناحي الحياتية للأفراد، مما أدى بالضرورة إلى إنتاج نموذج حكم ديني ديكتاتوري متعسف في كل الأماكن التي استطاعوا السيطرة عليها.
ولعل من أسوء ما أنتجته ممارسات هذا التنظيم هو تحويل الاختلاف والخلاف في الشأن السياسي إلى اختلاف عقائدي وديني ينتج عنه تكفير الآخر المختلف معه سياسيا وبالتالي إباحة دمه واستحلال قتله. نتيجة هذا الفهم المنحرف للدين قام هذا التنظيم بقتل العديد من قادة التنظيمات الإسلامية الأخرى القريبة والبعيدة عنهم، بعد أن أعلن كفرهم وخروجهم من الملة نتيجة اختلافه السياسي معهم. أدت هذه السلوكيات إلى نشوب معارك عنيفة بين هذا التنظيم وباقي التشكيلات العسكرية المعارضة في سوريا. بدأت هذه المعارك منذ بداية عام ٢٠١٤ وأدت إلى انحسار وجود هذا التنظيم في أغلب المناطق السورية وخروجه منها. أسفرت هذه المعارك عن مقتل أكثر من ٣ آلاف شخص من كل الأطراف وساهمت في خلق الفرص للنظام السوري لإعادة السيطرة على بعض المناطق التي كان قد أضطر للانسحاب منها في وقت سابق.
وبالتالي فقد أظهرت التجربة أن تيار السلفية الجهادية العالمية، رغم أنه وجَدَ في الحالة السورية إمكانيات التوسع، إلا أنه يعيش اليوم أزمة بنيوية نتيجة ظهور إحتقاناته وخلافاته الداخلية الأكثر جذرية ودموية. حيث أن حالة الطهورية الناجمة عن الاستعلاء والتمييز بين من يسمونهم بالعوام ويقصد بها عموم الناس وأصحاب المنهج من أتباع المدرسة السلفية الجهادية قد ضاقت جدا حتى حوّل هذا التمييز أصحاب البارحة إلى أعداء اليوم.
السلفية في سوريا قبل الثورة
يعد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس الدعوة السلفية الحديثة، التي أخذت عنها السلفيات المعاصرة في المشرق العربي والعالم الإسلامي؛ ووجد سنده السياسي عندما قرر محمد بن سعود، وهو أحد الأمراء في نجد وحاكم الدرعية في سنة 1744م، أن يساند حركة عبد الوهاب الدينية، التي دعا إليها محمد بن عبد الوهاب.
تعتقد المدرسة السلفية بالإجمال بضرورة العودة إلى التجارب الإسلامية السابقة في العهود الذهبية وخاصة عهد الرسول محمد والصحابة وإعادة إنتاجها، وبالتالي فإنها تنحو في أغلب الأحيان لرفض الجديد الذي لا يحمل جذورا تعود به إلى العصور الذهبية للإسلام. يمكن مقارنتها بالكثير بالتيارات الفكرية الإنجيلية في أوروبا وأمريكا، من حيث إيمانها بظاهر النص وإيمانها بأصول ثابته للدين لا يمكن الخروج عنها (يقابلها المكفرات العشرة لمحمد بن عبد الوهاب).
كما أن الاستفادة من التجارب الإسلامية القديمة ومنهجية إعادة إنتاجها، وكذلك منهجية رفض المنتجات الوافدة الغريبة تختلف داخل المدرسة السلفية نفسها. حيث يمكن لنا التمييز بين اتجاهيين رئيسيين:
السلفية العلمية (التقليدية): وهي تمثل امتداد للسلفية التقليدية التي انتشرت في الجزيرة العربية على يد محمد بن عبد الوهاب. لذلك يسميها بعض الباحثين أيضا بالسلفية النجدية. تستند في فكرها على التفسير الحرفي والظاهري للنص الديني من دون أخذ السياق التاريخي بعين الاعتبار، الامر الذي يؤدي إلى نتائج وفتاوى منفصلة تماماً عن الواقع مثل الفتوى الاخيرة لمفتي السعودية "عبد العزيز آل الشيخ" بتحريم لعبة الشطرنج التي صدرت بداية هذا العام، أو فتاوى تحريم قيادة المرأة للسيارة أو محاربة الكثير من منتجات الحداثة بدعوى أنها بدعة. أي أنها لم تكن تكن في زمن العصر الذهبي للإسلام. أما في الجانب السياسي فيتم عادة استعمال هذا الفكر الديني من قبل السلطة كأحد أدوات تثبيت وتدعيم السلطة كما نشاهد ذلك في المملكة العربية السعودية بوضوح. حيث تعد معارضة الحاكم ليست فعل سياسي مسموح وإنما مخالفة دينية تستوجب العقاب في الدنيا والآخرة.
أما في سوريا فقد اتخذ التيار السلفي موقف المعارض سياسيا والتوجه الاصلاحي دينياً منذ أواخر القرن التاسع عشر. من أشهر أعلامها في سوريا كان الشيخ عبد القادر أرناؤوط الذي توفي في دمشق في عام ٢٠٠٤ وكذلك الدكتور مأمون حموش الذي قاد التيار السلفي في دمشق بعد ذلك. أما الشيخ ناصر الألباني فقد كان الأب الروحي لهذه المدرسة ومحدث المنهج ليس فقط في سوريا بل في كل العالم العربي، إلا أنه منع من دخول سوريا منذ عام ١٩٨٠ وتوفي في الأردن في عام ١٩٩٩.
عانى رواد هذه المدرسة من الاعتقال والتضييق الشديد قبل اندلاع الثورة في سوريا. كما تمت محاربتهم فكريا بشكل منهجي بواسطة التيار الديني الصوفي المحسوب على السلطة. فقام الدكتور سعيد رمضان البوطي المعروف بتوجهه الصوفي وبقربه من نظام الاسد بتأليف عدة كتب لتفنيد طروحاتهم. مما أدى من حيث النتيجة إلى انحسار الوجود المنظم والعلني لأتباع هذه المدرسة. حيث تحولت معظم تجمعاتهم إلى السرّية وغلب عليها الطابع الأهلي المحلي أو العائلي.
تعد اليوم المملكة العربية السعودية الراعي الأول لهذه المدرسة التي تحرم الخروج على الحاكم في الأصل وترفض الثورات، مما يفسر تأخر أتباعها عن الالتحاق بركب الثورة في سوريا في بداياتها. يمكن التعرف على أقطابها خارج سوريا من خلال مواقفهم، كما يحدث في مصر، حيث يعد حزب النور في مصر أحد الامثلة الواضحة لهذا التيار حيث يدعمون انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي على الرئيس الاخواني المنتخب محمد مرسي لأنه، حسب منهجهم الفكري، وليّ الامر المتغلب وبالتالي على المسلمين طاعته.
العديد من الكتائب في سوريا تنتمي لهذه المدرسة، حيث يعد جيش الاسلام الذي أسسه زهران علوش -الذي قضى بصاروخ روسي- أحد أهم رموز هذا التوجه في سوريا. وليس سرا أن معظم دعمه السياسي والعسكري يأتي من المملكة العربية والسعودية.
خضعت المدرسة السلفية العلمية أيضا لتحولات عميقة جدا في السنوات الخمسة الاخيرة. حيث انتقلت من تشكيلات اجتماعية تقليدية إلى تشكيلات سياسية حديثة عن طريق تكوين أحزاب سياسية كحزب النور في مصر.
السلفية الجهادية: تؤمن هذه المدرسة بالجهاد والحرب على الغرب وعلى الكفر كطريق رئيسي للحصول على "الشوكة" أو "التمكين" من أجل بناء الدولة المسلمة. يعد تنظيم القاعدة المرجعية الأساسية لهذه المدرسة. تتميز هذه المدرسة ببساطة ووضوح الرسالة، وكذلك ببساطة ووضوح تعريف الإسلام وتعريف الكفر، مما يجعل أفكار هذه المدرسة سهلة الوصول والقبول للأشخاص المقبلين على التدين حديثا. يعد تنظيم القاعدة برموزه المعروفة هو الأب الروحي عموما لهذا التوجه. ويعد تنظيم "داعش" هو المثال الأشهر لهذا المنهج في الحالة السورية.
قام النظام السوري في أحد المراحل بتشجيع هذا التيار، حيث وظف بعض قياداته في الـ ٢٠٠٤ مثل الشيخ أبو القعقاع إمام جامع الايمان في حلب (محمود غول اغاسي)، حيث قام هذا الاخير بالدعوة لتجنيد الشباب لإرسالهم إلى العراق لقتال الأمريكيين هناك. لا يكمن الإشكال الذي تشكله "جبهة النصرة" أو "داعش" والمجموعات التي تحمل فكراً مشابهاً في فهمهم الخاص لكيفية بناء وإنشاء الدولة الإسلامية، وإنما يكمن في المنهج الذي يعتمد على فرض هذا الفهم بقوة السلاح. حيث تعد هذه التنظيمات اللجوء إلى صناديق الاقتراع وإرادة الشعب، واتباع العملية الديمقراطية كفراً واحتكاما لغير شرع الله وبالتالي هي تكفر كل من يتبنى هذا النهج ويدعو إليه.
يمكننا اليوم الحديث عن تيار ثالث انشق عن السلفية الجهادية بعد تجربة الجهاد في أفغانستان والعراق ويبدو أنه بدأ يتميز عنها بشكل واضح على الصعيد الخطاب والفكر. يميل بعض الباحثين العرب لإلحاق هذا التيار الناشئ بالمدرسة التي تأسست على أفكار سيد قطب (مصري) وعلى يد الشيخ سرور زين العابدين (سوري) في السعودية في الثمانينيات والتي تدعى السلفية الحركية، أي أنها تسعى للانخراط في التنافس السياسي من خلال أدواته المعروفة. يذكر أن الشيخ سرور توفي في شهر تشرين الثاني من العام ٢٠١٦.
ولكن نحن اليوم نتحدث عن تيار جديد ناشئ كنتيجة لانفصال عناصر جهادية عن الفكر الجهادي وابتعادها عنه لتأسس لتيار جديد ينقد تجربة القاعدة ويبتعد عنها. وإن كان هناك تقاطعات ما بين هذا التيار وبين فكر الشيخ سرور ومدرسته، إلا أن ذلك التقاطع لا ينفي عن التيار الناشئ أصالته وحداثته.
هذا المقال هو الجزء الأول من ثلاثة اجزاء من بحث اكاديمي ودراسة للسلفية في سوريا. الجزء الثاني: العداوة المتصاعدة بين التيارين السلفييين الحديث والقديم. الجزئ الثالث: التيار السلفي الجديد!