كل هاوية تمثل تحد جديد بالنسبة لمجموعة صغيرة من الرياضيين الإيرانيين من هواة الرياضات الخطرة، تحد لابد من تخطيه والتغلب عليه وذلك بمد حبال رفيعة وتوازنهم عليها فقط لا غير. تمنحهم هذه المرتفعات ، ملاذاً من القوانين الصارمة التي تهيمن على حياتهم اليومية.
يزيد "محمد رزا أبايه" من سرعة المحرّك، وموسيقى التِّكنو الصاخبة تُدوّي من مكبرات الصوت في سيارته، أما صديقه المفضّل "كلافاش"، يصيح بحماس كبير مُخرجاً رأسه من نافذةِ السّيارة، بينما تَنثرُ العجلات خَلْفهم غُباراً مَائلاً للإصفرار، يدخلُ الهواءُ المعشَّقُ بالرمال السيارة من نوافذها المفتوحة ليملأ المكان، ها هم محمد ورفاقه في طريقهم إلى مُرتفعاتٍ جديدة، وتَحَدٍّ آخر.
"حين أقف على الحبل المرتفع، تَختفي لوَهلةٍ كلُّ مخاوفي وهمومي، أَشعُرُ بالصَّفاء والحُريّة يملآن ذهني"، يُحدِّثُنا "أبايه"، وعيناه تلمع في كل مرة يذكر فيها المشي على الحبال.
حين أقف على الحبل المرتفع، تَختفي لوَهلةٍ كلُّ مخاوفي وهمومي، أَشعُرُ بالصَّفاء والحُريّة يملآن ذهني يجد "أبايه" أن الحياة في وطنه إيران، مَحفوفَةٌ بالمَصَاعِب، تُكبِّلُها القيود، وتُثقِلُها القواعد على كيفية التصرف. يشعرُ وكأنّ ثمّة أحداً ما يراقبه، ويتحكم به أينما ذهب، فالحكومة موجودةٌ في كلِّ مكان، مُستعدّة لمعاقبة أيّ انتهاكٍ لقواعدها، وبالكاِد تَجِدُ مكاناً تُكَوِّنُ فيه حياتك بمعزلٍ عن كل هذا، فلا تجد سِوى أحضانِ الطّبيعة لتُلبي لك هذه الرَّغبة. “لهذا السبب، يَعشَقُ الإيرانيون الجبال"، يقول أبايه، وهو شاب يبلغ من العمر 24 سنة، وقد كرّس حياته لرياضات الهواء الطلق.
أَبعدت المغامرةُ اليوم المجموعة عن بلدتهم "آراك"، وقد وَصلوا للتو إلى نهاية الطريق المعبّدة، ولابُدَّ لهم من إكمال الرحلة على طريقٍ ترابيّ وَعِرْ، يُهيمنُ مَشهَدٌ قاحل على منطقةٍ واسعة أشبه بالصحراء، مكونة من صخور وعرة، محاطة بسلسلة جبال شاحبة.
هناك حوالي 12 قمة جبلية في إيران بارتفاع يصل إلى أربعة آلاف مترً، وتجذب قِممُ الجّبال التي تغطّيها الثلوج هواة الرياضات الشتوية، ومؤخراً هواة المشي على الحبال.
يشير "أبايه" بإصبعه إلى قمّة حادّة ترتفع أمام سلسلة جبلية ويقول: "هناك، سنتسلق"، حيث يوجد هناك هُوَّة عمقها حوالي الخمسين متراً.
وصلنا إلى مكان قريب من قرية "انجدان" الجبلية، أو إلى - ملعب محمّد - كما يحلو لـ " آبايه" تسميه.
على الرُّغم من انتشارها الشّائع في أُوروبا، إلّا أَنّ رياضة المشي على الحِبال لاتزالُ حديثةً في إيران.
تعطينا هذه الرياضة فرصة لتخطّي العوائق والحدود التي تولد معنا نحن الإيرانيون في عام 2009، قام محمد بتأسيس أوّلَ مجموعة صغيرة تهتم بهذه الرياضة، وقد اكتشف رياضة المشي على الحبال من الإنترنت، وعلى إِثر مشاهدته فيلماً يتعلق بهذه الرياضة، شَعَرَ بالحماس الشّديد اتّجاه هذه الرياضة، يقول: "أخذت على الفور حبل تسلّق، وذهبت ورفاقي إلى الحديقة."
لا يزال يتذكر تعابير الدّهشة البادية على وجوههم، وصدمتهم عند تمكنِّه من المحافظة على توازنه أثناء مشيه على طول الحبل، وسُرعان ما شكّل بعد ذلك المجموعة الأولى للمشي على الحبال تحت اسم "المشي على الحبال في إيران".
يتمرّن الطلاب على مهاراتهم مُستخدمين حِبالاً صَنَعوها بأنفسهم في الحدائق والساحات الخلفية للمنازل، في حين تُطاردهم الشرطة أو حُرّاس الآداب العامة مراراً وتكراراً.
لكنّ محمد ورفاقه لم يستسلموا، بل صمّموا بعزمٍ على جعل هذه الرياضة شعبيّة، وكافحوا من أجلِ الحصولِ على حقِّهم في ممارسة هوايتهم في الأماكن العامّة في قلب المدينة، أو حتى التّأرجح من سطح إلى آخر، وقد حققت الجّهود التي بذلوها خلال هذه الفترة، العديد من النجاحات الصغيرة، كالسّماح لبعض الأولاد بتجريب المشي على الحبل في أحد المهرجانات داخل المدينة، أو الموافقة الرّسمية على مدّ حبل بين ناطحتي سحاب.
"تعطينا هذه الرياضة فرصة لتخطّي العوائق والحدود التي تولد معنا نحن الإيرانيون، إذ تسمح لنا بالتّواصل مع شبان آخرين من نفس الفئة العمرية، والتسلية بكلّ بساطة"، هذا ما قاله "أبايه" حين تذكّر تجربته الأولى بالمشي على الحبل، التي تمكن من الإلمام بها بفضل مجموعة رياضيين فرنسيين من هواة المشي على الحبال.
ففي عام 2012، تلقّت مجموعة من هواة المشي على الحبال في فرنسا، دعوةً لحضورِ مهرجان التّسلّق الذي نظّمَه النادي الإيراني لتسلق الجّبال في "بيستون"، وأحضروا حينها كافة المَعَدّات اللازمة لذلك.
عسى أن تستثمر هذه المدينة الرمادية بعضاً من مواقعها، حيث يمكن للمرء أن يتصرف هناك بكامل الحرية والإبداع "لن أنسى أبداً ذلك الشعور الممتع، لأول حبل حقيقيّ تحت قدميّ، بدأت بالمشي إلى أن بلغت حافة الجبل من الجهة الأخرى"، وقدّم له الهواة الفرنسيون بعض معدّاتهم كهدية عربوناً عن اندهاشهم بأدائه.
شكّل هذا الحدث، ضربة حظّ لـ "آبايه"، نظراً إلى أنّ المعدّات اللّازمة لممارسة هذه الرياضة، تعتبر من السلع النادرة في إيران، وقد لجأ "أبايه" ورفاقه إلى تصنيع معظم المعدات اللازمة بأنفسهم، وذلك لتفادي المشاكل الحتمية مع الجمارك، ولأنّ الحاجة أمّ الاختراع، خَطر على بال "أبايه" ورفاقه فكرة تصنيع معدات محترفة للمشي على الحبال، وتوزيعها داخل البلاد، وبالتالي يسهّلون على الرياضيين الحصول عليها بأسعار مقبولة، فضلاً عن ذلك، فهم يرغبون في خَلق مساحةٍ يجتمع فيها الشبان سوياً للتدرُّب، والتخطيط للرّحلات في الهواءِ الطّلق.
ولتحقيقِ مَشروعهم، قاموا باستئجار مبنىً في بلدتهم، وعملوا على ترميمه، وتطويره ليصبح مركزاً لمدرسة لتعليم المشي على الحبال، يضيف أبايه: "لا يمكنك هنا أن تحرز إنجازا إلّا إذا اعتمدت على شبكة معارفك، فمن دونهم قد تضيع عليك فرصة تحقيق ذلك، كما أنه ليس لديك أيّة حظوظ لتأسيس شركة جديدة، ناهيك عن أنها مشبوهة بالنسبة للسلطات المحلّـيّة."
إنها عملية شاقّة، غير أن الرّفاق يعتزمون تحقيقها: "هذا المشروع مهمّ للغاية، ليس فقط بالنسبة إلينا، بل إلى بلدتنا "آراك" أيضاً، عسى أن تستثمر هذه المدينة الرمادية بعضاً من مواقعها، حيث يمكن للمرء أن يتصرف هناك بكامل الحرية والإبداع."