الزمن اللازم للقراءة: 8 دقيقة
البرلمان الجزائري وحالات التنافي

الحصانة البرلمانية ملاذاً للهروب من القضاء

تقرير
مجلس الشيوخ الجزائري
مجلس الشيوخ الجزائري في الجزائر العاصمة المصور: محمد أمين حسين

في أواخر عام 2017، وخلال جلسة تصويت للبرلمان الجزائري، تم رفض إقرار ضريبة جديدة على الثروة تمس أرباب العمل وأصحاب رؤوس الأموال، من قبل أغلبية النواب.

تلك الضريبة كانت ستضمن مدخولا للخزينة بدل اعتمادها على النفط الذي يواجه انهيارا في أسعاره. كما كان من شأنها إضافة المزيد من الشفافية على ممتلكات وتعاملات كبار رجال المال، خاصة في سوق تتم ثلث تعاملاته خارج الأطر الرسمية.

رفضُ النواب إقرار الضريبة الجديدة رغم مزاياها يطرح تساؤلات حول علاقتهم برجال الأعمال ونفوذ أصحاب المال داخل قبة البرلمان الجزائري. حيث يحتوي البرلمان على 54 عضواً متورطين في حالات التنافي الممنوعة دستوريا، بسبب استمرارهم في إدارة شركاتهم التجارية، كما أن نسبة رجال الأعمال تصل إلى 23 % من مجمل الأعضاء في مجلس الشيوخ، و17 % في المجلس الشعبي الوطني.

 

مما يعزز الشكوك أيضا حول هذه العلاقة، قضية السيناتور الفاسد (بوجوهر مليك) المنتمي لحزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يرأسه الوزير الأول (رئيس الوزراء) الحالي أحمد أويحيى، القضية خرجت للعلن بعدما تلقى السيناتور رشوة قدْرها نصف مليار سنتيم (ما يقرب 50 ألف دولار) لتسهيل مشاريع أحد رجال الأعمال، وقبل ذلك القبض على ابن المسؤول الأول السابق عن أكبر أحزاب السلطة (جمال ولد عباس عن جبهة التحرير الوطني) و بحوزته ما يعادل 520 ألف دولار و 200 ألف أورو أخرى جناها من بيع مناصب برلمانية لبعض المترشحين، فيما تم القبض أيضا على مسؤولة أخرى في الحزب نفسه (سليمة عثماني) متلبسة بتلقي مبلغ يعادل 150 ألف أورو كان سيدفعها زميل لها في الحزب مقابل ترشيحه في قائمة الحزب. شراء رأس قائمة أحد حزبي السلطة الرئيسيين (جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي) يضمن فوزا مسبقا لصاحبه، ذلك أن هذين الحزبين يشكلان أكثر من نصف البرلمان.

 

يقول البرلماني محمد حديبي، النائب عن حركة النهضة، "إن بعض البرلمانيين يدفع ما يعادل 435 ألف دولار أمريكي لشراء مقعد ولتمويل حملته في الانتخابات التشريعية. أي أن رجل الأعمال يدفع ثلاثة أضعاف راتب البرلماني لعهدة كاملة من أجل الحصول على مقعد في البرلمان؛ مما يثير التساؤل عن حاجته لمنصب بأجر زهيد مقارنة بثروته.

 

وعن المزايا التي يمكن أن يستفيد منها رجال الأعمال في البرلمان، يتحدث البرلماني، حسن عريبي، أن هناك مزايا على غرار الحصانة البرلمانية، والفوز بصفقات عمومية عن طريق العلاقات مع الحكومة، وعدم دفع الضرائب عن النشاطات التجارية طوال العهدة البرلمانية، وإمكان شطب الديون المالية المترتبة عليهم تجاه الخزينة العمومية، والحصول على قروض بنكية خارج الأطر القانونية وربما تمرير قرارات وقوانين في صالح رجال الأعمال عبر الهيئة التشريعية. وذلك ما جرَّنا للتحقيق في نشاط البرلمانيين في كلتا غرفتي البرلمان (مجلس الشيوخ 148 عضوا، والمجلس الشعبي الوطني بأعضائه الـ 462).

 

التحقيق أفضى إلى أن هناك 34 رجل أعمال في مجلس الشيوخ، ينتمون إلى حزبي السلطة الرئيسيين بينما ينتمي 12 % الباقون إلى الثلث الرئاسي الذين يعينهم الرئيس. كما أن عدد رجال الأعمال، في المجلس الشعبي الوطني، بلغ 78 عضوا، ينتمي غالبيتهم لحزبي السلطة الرئيسيين، ثم لباقي الأحزاب، بعدد أقل، أبرزها تجمع أمل الجزائر الذي يرأسه الوزير السابق عمار غول، والحركة الشعبية الجزائرية بقيادة وزير التجارة السابق عمارة بن يونس، وهما حزبان معروفان بولائهما المطلق للرئيس بوتفليقة والترويج لسياساته. إضافة إلى أحزاب أخرى.

 

وبالرغم من وجود المادة 116 في الدستور الجزائري التي تلزم أعضاء البرلمان بالتفرغ الكامل لمهامهم البرلمانية، وتكريس نظام التنافي مع العهدة البرلمانية، أي عدم الجمع بينها وبين مهن أخرى تحول دون تفرغ عضو البرلمان للمهام التي انتخب من أجلها، على غرار تقلد الوظائف العامة، أو أن يستمر النائب في تسيير نشاط تجاري خلال عهدته البرلمانية. إلا أنه في الواقع 56 % من أصحاب الشركات الذين يشغلون مناصب نيابية في مجلس الشيوخ، مازالوا يديرون شركاتهم، مقابل 45 % من أصحاب الشركات في المجلس الشعبي الوطني، أي أن 54 عضوا في كلا المجلسين متورطون في حالات التنافي الممنوعة دستوريا وذلك رغم مرور سنة ونصف على الأقل منذ انتخابهم في البرلمان. وتتوزع شركاتهم بين قطاعات مختلفة أهمها البناء والأشغال العمومية وشركات الاستيراد.

 

وبالرغم من أن مفهوم الحصانة يقتصر على الأفكار والآراء والمواقف، إلا أن الكثير ممن يسعون إلى المقاعد النيابية هم طامعون بتلك الميّزة التي تصحب المنصب، ليتم استغلالها في الإفلات من تجاوزات ارتكبوها قبل أو خلال عهدتهم في البرلمان. حيث كشفت تقارير منشورة في عدد من الصحف، عن بعض تلك الحالات.

 

ففي تقرير لجريدة Réflexion، كشفت الصحيفة عن محاولة النائب والمقاول السابق، حماوي عز الدين، تهريب مبلغ 200.000 أورو إلى فرنسا سنة 2013، مستغلا منصبه البرلماني، إلا أنه قبض عليه في مطار الجزائر الدولي وأحيل ملفه للقضاء، لكن دون جدوى، فقد فاز بعهدة برلمانية ثالثة سنة 2017.

 

وفي مقال لجريدة الصوت الآخر، أفادت بأن المدعو "إبراهيم ساعو" وهو رئيس فريق اتحاد بسكرة لكرة القدم، صدر يوم 22 أبريل 2017 حكم بسجنه ثلاث سنوات نافذة بتهمة محاولة رشوة حارس فريق منافس بما يعادل35 ألف دولار، لكنه فاز بمقعد في البرلمان بعد أسبوعين فقط من صدور الحكم وبذلك نجا من الحبس بفضل الحصانة.

 

كما تم إدراج اسم "حماني همة" من محافظة إيليزي عن جبهة المستقبل، ضمن قائمة ممولي الإرهاب حسب مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، باعتباره داعما لتنظيم داعش في ليبيا، بسبب ضلوعه في عمليات استيراد ومتاجرة بالأسلحة. نشر اسمه على القائمة يوم 19 أبريل 2017 وبعد أسبوعين فقط من ذلك تمكن من الفوز في التشريعيات والاستفادة من الحصانة.

 

كذلك نشرت جريدة Le Matin تفاصيل فضيحة انفجرت في شهر فبراير 2001، تتعلق بالنائب محمد بوثلجة من محافظة مستغانم عن تجمع أمل الجزائر، وهو رجل أعمال معروف بفضيحة بيع مئات سيارات "فولسفاكن" عبر شركته للاستيراد SOFIEMCA SARL دون دفع الحقوق الجمركية.

 

من جهتها، نشرت جريدة "الجزائر سكوب" معلومات مثيرة عن النائب عبد الكريم مهني من الجزائر العاصمة عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي قام عبر شركته “CEG” باستيراد 2300 مكيف هوائي من مستثمرين تونسيين، دون تسديد ثمن المبيعات التي تعادل قيمتها الإجمالية 650 ألف دولار.

 

كذلك نشرت جريدة "صوت نيوز" مقالا عن نائب يدعى عبد الصادوق سيد أحمد من ولاية غليزان عن الحركة الشعبية الجزائرية، وهو رجل أعمال، يلاحقه زبائنه بسبب سكنات تساهمية لم تنجزها شركته رغم دفع المستفيدين أقساطها وحصوله على إعانة من الدولة، ورغم ذلك ترشح لعهدة ثانية وفاز فيها وحصل مرة أخرى على الحصانة.

 

قانونيا، كان يجدر بوزارة الداخلية منع هؤلاء من الترشح مرة أخرى، تماما مثلما منعت مرشحا آخر يدعى طاهر ميسوم من الترشح للتشريعيات سنة 2017، بعد أن بحث القضاء في سجلّه، ووجد حكما قضائيا قديما صادرا ضده سنة 2007، ينص على حبسه مدة شهرين، في قضية إصدار شيك دون رصيد، فمُنع من الترشح رغم السماح له بالترشح سابقا لعهدة 2012 - 2017، وإن كانت خلفية المنع هنا سياسية أكثر منها قانونية لأن المعني انتقد بشدة مسؤولين سامين في الحكومة خلال عهدته السابقة، بينهم وزير الصناعة السابق عبد السلام بوشوارب.

 

وقد حاولنا الاتصال بوزارة الداخلية الجزائرية للاستفسار عن سبب قبول ملفات ترشيح برلمانيين مسبوقين، كما حاولنا الاتصال بالبرلمان الجزائري للاستفسار عن حالات التنافي، لكن دون رد.

 

بعض المسؤولين ينتقلون من الحصانة الدبلوماسية إلى الحصانة البرلمانية، إقالة وزير متهم بالفساد واستغلال النفوذ يعني سقوط الحصانة الدبلوماسية عنه، أي إمكان متابعته قضائيا، الحل يكمن إذن في الاستنجاد بالرئيس للحصول على الحماية، فيستفيد المعني من مقعد في مجلس الشيوخ ضمن الثلث الرئاسي، وهو ما حدث مثلا مع عمار غول الذي شغل منصب وزير لمدة 17 سنة بين النقل و السياحة و الأشغال العمومية، تعلّق اسمه بفضيحة الطريق السيار شرق غرب، لكن القضاء عجز عن استدعائه للمحاكمة بسبب منصبه، وما إن أقيل حتى راسل الرئاسة يطلب إنقاذه، فعُيّن سيناتوراً في مجلس الشيوخ ضمن الثلث الرئاسي ليستفيد من الحماية، وينضم إلى 6 وزراء سابقين آخرين يقبعون في المجلس نفسه.

 

بإمكان الوزراء أيضا الترشح للانتخابات التشريعية والحصول على مقعد في البرلمان للتمتع بالحصانة البرلمانية، فالتعيينات الوزارية قد تدوم أشهرا معدودة قبل إجراء تغييرات حكومية يُقال على إثرها بعض الوزراء ويُحتفظ بالبعض الآخر، لكن الظفر بمقعد برلماني يضمن منصبا قاراً لمدة خمس سنوات. على ضوء ذلك ظفر 10 وزراء سابقين بمقاعد في المجلس الشعبي الوطني في آخر انتخابات تشريعية، سبعة منهم ينتمون للحزب الحاكم.

 

لا يعرف إن كان الوزراء السابقون الذين التحقوا بالبرلمان متورطين في تجاوزات ما دخلوا على إثرها للبرلمان من أجل التحصن، لكن جلاب محمد وزير المالية السابق مثلا، كان قد عين مديرا لمجمع “خليفة” بعد انكشاف الفضيحة ويشتبه بتستره على الرشاوي التي كان يتقاضاها مسؤولون سامون وعائلاتهم من صاحب البنك عبد المؤمن خليفة.

 

ليس هناك مشكل في وجود رجال الأعمال في مؤسسات السلطة التشريعية، فهم جزء من المجتمع بمختلف مكوناته وشرائحه، لكن هل هذا التمثيل السياسي متوازن إذا ما قورن بنسبة هؤلاء إلى عدد السكان؟ هل خُمس الجزائريين من رجال الأعمال مثلا؟ نسبة تمثيل رجال الأعمال في مؤسسات السلطة التشريعية تبقى عاليةً، إذا ما قورنت بنسبة هؤلاء إلى عدد السكان النشطين في التجارة والأعمال، والتي لا تتعدى%10.

 

وتعليقا على الموضوع، يقول الدبلوماسي الجزائري السابق محمد العربي زيتوت: "هؤلاء وجدوا طريقهم الأفضل للثراء عن طريق دخول المجالس المنتخبة، لما توفره من نفوذ وحصانة، فأصبح بعضهم يشتري المقاعد في البرلمان باعتراف من أحمد أويحيى الوزير الأول الذي صرح قائلا "نحن لا نشتري المناصب بالشكارة" أي بالمال، في إشارة إلى الحزب الحاكم".

 

وحول سؤال عن أسباب ظاهرة اقتحام الوزراء السابقين للبرلمان، يعتقد زيتوت أنهم يبحثون عن حصانة إضافية في ظل صراع الأجنحة حتى يصعب على الجناح الآخر الإطاحة بهم كما يحدث بين حينٍ وآخر، على غرار الإطاحة مؤخرا بمسؤولين كبار في الجيش والشرطة والدرك.

 

أما المحامي والناشط الحقوقي طارق مراح، فيعتقد أنه ليس هناك ما يمنع رجال الأعمال من دخول البرلمان لا في الدستور ولا في القانون الداخلي للبرلمان، ويضيف أن البرلمان مفتوح للجميع لغاية سياسية، وأن النظام وأحزاب السلطة يستعملون رجال المال وأموالهم الفاسدة لضمان استمرار هذه العصبة، على حد قوله. وبخصوص حالات التنافي، يفيد مراح أن أصحاب المال في البرلمان يزعمون أنهم أصحاب الشركات وليسوا مسيرين لها، وإذا ثبت العكس، يجب على باقي البرلمانيين إثارة هذه الحالات وتقديم أسماء المعنيين لرئيس البرلمان لعرض القضية على النواب، إذ يفترض أن صاحب الشركة المسير لها يتنازل عن حق تسيير الشركة إلى حين انتهاء عهدته البرلمانية. ووصف مراح وجود برلمانيين من أصحاب السوابق بالحالة الخطيرة، إذ على القضاء أن ينتبه لجرائم القانون العام، ويتوجب رفع الحصانة عمن ثبت إجرامه وتقديمه للعدالة من أجل محاسبته، خاصة أن الحصانة هنا تعنى فقط بالمهمات النيابية.

عن: 
محمد أمين حسين