كانت ولاية القصرين التونسية مهمشة منذ عقود والحال فيها لم يتغير حتى بعد ثورة الياسمين. فمازال الفقريتخبطها وتعج مقاهيها بشبابها العاطل عن العمل، وما زاد الطينة بلة تحصن الإرهابيين بجبالها. ويعاني القرويون خاصة القاطنين قرب الجبال من هذا الوضع.
"لم نتعود على غيابه بعد ونارُ فراقه لم ولن تخمد أبدا". بنبرة حزينة وبعيون دامعة تصف "حبيبة" لوعتها لفقدان والدها الشيخ "صالح الفرجاوي" (80 عاما) الذي قتل يوم 29 آب/أغسطس 2015 على يد عناصر إرهابية مسلحة قرب جبل سمامة بولاية القصرين التونسية. القتيل هو إمام جامع في قرية "زاوية بن عمار" تعرض لإطلاق نار من قبل مسلحين عندما كان يرعى أغنامه على مسافة قريبة من منزله بالقرب من سفح جبل سمامة. وقد عثر أقارب الضحية على جثته مصابة بخمس طلقات نارية من سلاح حربي على مستوى الصدر واليد.
مقتل الإمام لم يحظى بتغطية إعلامية كبيرة، إذ تحدثت بعض الصحف المحلية عن الحادث باقتضاب، لكن موته خلف حسرة كبيرة في قلوب كل من يعرفه. مر على مقتله الآن أكثر من سنة، لكن الأيام لم تضمّد بعد جراح زوجته "مسعودة" التي ترى أن حياتها لم تعد لها معنى دون رفيق الدرب. فقد تشاركا هموم الحياة مع بعض واليوم هي وحيدة من دونه.
"مازلت أسمع صوته في أرجاء المكان وأتخيله عائدا من الجبل مع أغنامه، لكن سرعان ما أعود للواقع لأتذكر أنه فارقني للأبد"، تنهمر دموع "مسعودة" ويطبق الصمت على المكان، صمت رهيب امتزج فيه الحزن مع الخوف واليأس. فيما تواصل ابنتها "حبيبة" الحديث متسائلة عن أسباب قتله وهو الإنسان البسيط، شيخ في الثمانين من العمر معروف بدماثة أخلاقه وحسن سيرته. إنسان شاءت الأقدار أن يتواجد في الجبل لحظة عبور الإرهابيين من المكان ليصبح ذكرى في لحظات. وفي كل ذكرى تسترجعها "حبيبة" عن والدها تنهمر دموعها ودموع والدتها، فتجدا في ملابسه البسيطة والتي مازالت منثورة على سريره وزجاجة عطر خاصة به ملجأ قد يُخمد، ولو قليلا، لوعة الفراق.
مقتل الإمام ترك أثرا لدى أهل القرية، كيف لا وقد ظل جامعهم بدون إمام، فالجامع بالنسبة إليهم مكان للصلاة وكذلك مقر يلتقي فيه سكان المنطقة في أفراحهم وأحزانهم، مكانٌ يتعلم فيه الأطفال أبجديات القراءة والكتابة. كل ذلك تغير الآن لدى أهالي منطقة "زاوية بن عمار" والقرى المجاورة المحيطة بالجبل.
"كنا نرى صور الموتى ونسمع عنها في التلفاز، أما اليوم فالقتيل واحد منا". هكذا عبر أحد سكان القرية عن إحساسه بعد وفاة الشيخ " الفرجاوي". وليس الحزن فقط ما بات يسيطر على قلوب أهالي المنطقة بل الخوف والذعر بعد أن أحسوا أن شبح الإرهاب لا يبعد إلا بضعة أمتار عن منازلهم. فالمسلحون التابعون لكتيبة عقبة ابن نافع المرتبطة بما يسمى بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي يتحصنون في جبال ولاية القصرين ومن بينها جبل سمامة منذ نهاية عام 2012. ويعمد عناصر من تلك الجماعات الإرهابية إلى مداهمة منازل القرويين من حين لآخر للتزود بالمؤن.
مداهمة منازل القرويين
يتذكر "محمد. ب" تلك الليلة الممطرة من شهر كانون الأول/ ديسمبر 2015 حينما داهم مسلحون بيته الواقع في منطقة "وادي المساهل" القريبة من الجبل، يقول انه شعر بتحرك مريب خارج البيت بعد أن تزايد نباح الكلاب، مما قلب تلك الليلة الهادئة رأسا على عقب. لقد كانت اول مرة يرى فيها مسلحين مدججين بالسلاح.
يقول "محمد. ب“ إن العناصر الإرهابية التي داهمت منزله طلبت منه إعداد العشاء وظلوا يتجاذبون أطراف الحديث معه فيما اكتفت المرأة التي ترافقهم بالجلوس بعيدة عن المجموعة. "نحن نراقبكم من أعلى الجبل ونرى كل تحركاتكم، نعرف من يزوركم ومتى تنامون وتستيقظون".
كانت هذه الجملة التي قالها أحد المسلحين لـ "محمد" كفيلة بإرعابه ودفعه للتفكير جديا بالنزوح إلى المدينة، فهو يعتبرها تهديدا وإنذارا بأن من يتعاون مع الأمن والجيش التونسي ضدهم سيلقى مصيرا بائسا. لكن ضعف الإمكانيات وضيق الحال منعاه من النزوح إلى المدينة بالرغم من حجم الخوف الذي بات يطبق على حياته وحياة عائلته.
أما "فيصل" فلم يتردد لحظة في ترك منزله والنزوح إلى مدينة سبيطلة بعد أن داهم ثلاثة مسلحين منزله بعد غروب الشمس طلبا للمؤنة، فقد زاد من عزيمته في الرحيل بعد أن أخبره أحد المسلحين بأن لديه عريسا مناسبا لابنته ذات العشر سنوات التي كانت تجلس في الغرفة إلى جوار والدها.
خوف الأب دفعه إلى ترك القرية في ذات الليلة متوجها إلى منزل أحد أقاربه خشية أن يعود الإرهابيون مرة أخرى جالبين معهم "العريس الموعود". فمداهمات المسلحين لتلك المنطقة وما جاورها قد ازدادت بشكل ملحوظ منذ أواخر 2015، وهم يطلبون من السكان تزويدهم بالمواد الغذائية والألبسة وحتى الدواب للتنقل بها في الجبال المحاذية.
لكن مداهمات الإرهابيين لمساكن القرويين ليست هي المعضلة الأولى والأخيرة التي باتت تنغص حياتهم، فقد كان مقتل الإمام وإصابة عدة أشخاص بألغام مزروعة في الجبل سببا آخر دفع بالعديد من الأهالي لترك منازلهم والنزوح إلى المدينة بحثا عن مكان أكثر أمنا لعائلاتهم. أما من ظل هناك فان الإرهاب قد جعل حياتهم الريفية أكثر قسوة وتعقيدا.
الحياة تتوقف مع السابعة مساءً
بعد غروب الشمس ومع حلول الظلام يخشى سائقو سيارات النقل الريفي التنقل بين المدينة والقرى المحيطة بالجبل، خاصة عندما قطع الإرهابيون الطريق مرة أمام أحد زملائهم واستولوا على مواد غذائية كان ينقلها على متن سيارته بعد أن قاموا بضربه وتعنيفه.
هذه الحادثة كانت سبب كافيا لبث الخوف في نفوس سائقي وسائل النقل ما جعلهم يوقفون نشاطهم قبل الساعة السابعة مساء حتى صباح اليوم التالي. وهو الأمر الذي أثر سلبا على حياة القرويين التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالمدينة. إذ يقول أحد سكان المنطقة إن "الحالات الطارئة كالمرض المفاجئ أو الولادة تتطلب منا التنقل إلى المدينة، فأقرب مستشفي من هذه المنطقة يقع على بعد أربعين كيلومترا. وفي غياب سيارات النقل لابد من الانتظار حتى الصباح وهذا يزيد حالة المريض خطورة لا بل نراه يموت بين أيدينا".
زوجة "صالح"، أحد سكان "وادي المساهل"، فقدت جنينها منذ سنة عندما فاجأها المخاض ليلا ولم تستطع التنقل إلى المدينة، حاولت القرويات مساعدتها على الولادة ولكنها فقدت مولودها وكادت تفقد حياتها. قصص كثيرة سمعناها لواقع أليم لكن معاناة سكان المنطقة الجبلية لا تنتهي هنا.
أُغلق الجبل.. وضاع رزقنا
بالقرب من أحد الينابيع العذبة القريبة من قرية "زاوية بن عمار" تقوم "زهرة" برعي غنمها، إنها آخر نقطة يمكن الوصول إليها قبل الدخول إلى عمق الجبل، تتحدث زهرة عن خوفها من التوغل في الجبل بعد مقتل الإمام "الفرجاوي" وبعد وفاة ثلاث نساء منذ خمسة أشهر في انفجار لغم أرضي أثناء جمعهن اعشاب الحلفاء والإكليل. وقالت بأن الجبل الذي كان يعنى للقرويين سكون الريف وجمال الطبيعة بات تهزه أصوات الطائرات العسكرية التي تحوم فوق المنطقة وصوت قصف المدفعية.
تحدثت "زهرة" بحسرة عن الماضي وتمنت أن تعود الحياة لما كانت عليه. فالجبل يعد مصدر رزق للعديد من أهالي القرى القريبة من جبل سمامة، وإعلانه كمنطقة عمليات عسكرية مغلقة قي صيف 2015 حرم الأهالي من مصدر قوتهم الوحيد. يقول "خالد الزيودي" بأن أغنامهم كانت ترعى في الجبل لكنهم مضطرون اليوم لشراء العلف الذي يبلغ سعر الكيس الواحد 25 دينارا أي نحو 10 يورو ما يفوق قدراتهم الشرائية بكثير. وحتى الحطب الذي كان سكان القرى يجمعونه من الجبل للتدفئة والطهي لم يعد متاحا، فقد حرم اهل القرية خاصة النساء منهم من جمع أعشاب الإكليل والزعتر والبلوط والصنوبر التي كانوا يبيعونها في السوق الأسبوعي والاستفادة من مالها لشراء مستلزماتهم اليومية.
حرمان الأهالي من الجبل، والخوف من الإرهاب وعدم توفر سبل العيش الكريم دفع بعدد كبير من السكان إلى بيع أغنامهم والنزوح للمدن الكبرى كمدينة تونس وسوسة للبحث عن عمل في المصانع أو في ورشات البناء.
سنة دراسية لم تبدأ بعد
وضع الأطفال هناك لا يختلف كثيرا عن وضع الكبار، فرغم بداية السنة الدراسية منذ أكثر من شهر ونصف إلا أن أقسام السنوات الأولى والرابعة والسادسة بمدرسة "وادي المساهل " لم تباشر بعد دروس اللغة العربية والرياضيات لرفض المدرسيين المعيّنين التدريس بمنطقة يخيم عليها شبح الإرهاب وتفتقر إلى ابسط ضروريات الحياة.
الوضع في قرية "زاوية بن عمار" لا يختلف كثيرا عن سابقتها إذ لم تباشر ثلاث أقسام دروس اللغة العربية بعد، في مزار الشيخ "عبد الوهاب الدبابي" والشيخ "محمد الترمذي" الذي تم تحويل ثلاث غرف فيه لأقسام لتدريس تلاميذ الصفوف الابتدائية. كما أن حصص التدريس في تلك المنطقة قد قلصت إلى نظام الحصة الواحدة في اليوم والتي تبدأ صباحا وتنتهي عند منتصف النهار. لقد اجبر الخوف أهالي المنطقة على عدم المغامرة بإرسال أبنائهم يوميا إلى المدارس النظامية التي تبعد عدة كيلومترات عن منازلهم، فالتنقل عبر المسالك الوعرة لم يعد آمنا قط خصوصا مع بداية حلول الظلام.
مطالب السكان في هذه المنطقة وأحلامهم لا تتعدى الآن إقامة نقاط عسكرية قريبة من منازلهم لمنحهم الإحساس بالأمان وإحداث مستشفى بالمنطقة لكيلا يضطروا للذهاب الى المدينة للتداوي والعلاج ..."نريد أن نشعر بأن الدولة تهتم لأمرنا وبأننا تونسيون كباقي التونسيين" يقول أحد السكان. إحساس بالخوف وبالتهميش والعزلة يعتري سكان المنطقة في ظل انعدام الامن وغياب الخدمات والبنى التحتية وافتقارهم لأبسط مقوّمات الحياة.