بعد انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي تولي ترامب رئاسة أميركا، تضارب الأحزاب في أوروبا أصبح يمثل تعصب مذهبي، يقول الناقد كارل شرو، الملقب كارل ريماركس، بلهجته اللبنانية.
زينيت: يعتقد العديد من سكان الغرب بأنهم تخطوا التعصب الديني او النظام الطائفي، الذي يخلط الدين بالسياسة، منذ زمن. هل ترى في المجتمع الغربي أو في سياسة الغرب أي ظواهر من هذا القبيل؟
كارل شرو: في الحقيقة، التعصب الديني هو مصطلح (خامل). مثلا في حالة لبنان، من المناسب أكثر ان نتكلم عن نظام حكم طائفي، رغم ان هذا المصطلح يبدو قديم. ولكن العالم اجمع، بشكل او بآخر، يتجه نحو هذا المنهج في تنظيم المجتمعات. وهذا ما صدمني دوماً.
العديد من الناس عندما يتحدثون عن لبنان أو عن الشرق الأوسط بشكل عام، لا يلاحظون التشابه بين الطائفية الدينية كنظام مؤسساتي اجتماعي سياسي وما حدث للتعدد الثقافي الليبرالي في الغرب. لذلك فهم ينظرون إلى لبنان على انه متخلف ورجعي بهذا الخصوص. وفي الوقت ذاته ينظرون إلى طريقة تأسيس وتشكيل نظام التعدد الثقافي في الغرب على انها منفتحة وعصرية. لكن المشكلة تكمن في عدم ادراكهم أن هناك اتجاهات ظهرت بسبب الافتقار للطابع العالمي.
هذا النوع من الانقسام في الغرب كان يشحذ خلال السنوات الماضية. لذلك وجدناه تطوراً مدهش، تماماً مثل نكتة: انظر كيف أصبح الغرب طائفياً! لكن أعتقد أن هذه الظواهر كانت موجودة منذ زمن. فهذه نتيجة لمحاولة ترسيخ التعدد الثقافي في المؤسسات. وما أعنيه حقاً هو وضع صيغ قانونية تختلف في تناسبها بحسب الخلفية الثقافية لكل شخص في المجتمع. لقد كنت معارضاً لهذا المنهج في لبنان، كما اعارضها الآن وأنا أعيش في الغرب.
ما هي أكثر دولة غير عربية تذكرك بلبنان؟ هل هي شمال إيرلندا؟ ريمانيا وليفيا (لعب بالمصطلحات للدلالة على الجزء الذي صوت للبقاء في الاتحاد الأوروبي والجزء المصوت للمغادرة) اللتان انفصلتا مسبقاً عن المملكة المتحدة؟
في الواقع، لقد اثرت فكرة ريمينيا وليفيا بعدة تغريدات على التويتر بعد التصويت على انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الاوروبي. لطالما كانوا يخبروننا كم نحن، شعوب الشرق الأوسط، طائفيين وبالتالي في نزاع دائم مع بعضنا البعض. فالأمر لم يستغرق سوى استفتاء – بنتائج متقاربة ـ لنرى كيف الانقسام في المجتمع بدأ يظهر للعيان. أحد أصدقائي الذين صوَّتوا "بالبقاء"، أخبرني أنه بعد التصويت، عند ركوبه القطار، خطر بباله أن "نصف الناس الموجودين هنا على الأقل قد صوَّتوا "بالانسحاب". ومن ثم وجد نفسه ينظر إلى جميع الموجودين بريبة، دون ان ينتبه إلى تصرفه.
الشيء الذي كنت أربطه سابقاً بلبنان والشرق الأوسط أصبح فجأة شيء ملموس: من هؤلاء الناس؟ هل هم أعدائي؟ أين هم من حولي؟ هل يقفون بجانبي في القطار؟ قد تكون هذه الحلقة شيء سطحي. لكن الشيء الذي يدعوا للقلق أن نلحظ تصاعد الانقسام السريع في المجتمع والذي ظهر بشكل حاد مع أنه لم يكن موجود منذ سنة مضت. لكن لا أدري ما السبب الحقيقي لهذا. من الممكن أن تكون الروابط الاجتماعية قد اهترأت على مدى العصور. وبالعودة إلى حديثنا، فإن الشعور العام بعد الخروج من الاتحاد الأوربي، الذي عبرت عنه من خلال الفكاهة التي طرحتها سابقاً، مماثل جداً لما كنت أواجه في الشرق الأوسط.
كيف ينظر سكان الشرق الأوسط إلى تضارب الأحزاب في الغرب؟
بما أنها ما زالت حدث جديد فالناس في الشرق الأوسط يسخرون بشأنها: انظروا، لقد أصبحوا يشبهوننا! هي ليست ظاهرة محددة بعد كي يقرر الناس موقفهم منها. بالنسبة لي هناك فرق كبير بين تولي ترامب رئاسة أميركا وانسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، هم بالطبع مختلفين تماماً. لكن العديد من الناس وضعوهم في ميزان واحد. لأن الحدثين كانوا في السنة ذاتها، وترامب أيَّد انسحاب المملكة المتحدة وأيضاً كلا النتيجتين أشعلتا غضب شعبي.
بالنهاية، كلا النتيجتين حدثتا في مكانين مختلفين ولأسباب مختلفة، لكن من اللافت أن وضعهم في ميزان واحد تم قبوله تلقائياً في الغرب والشرق الأوسط. هذا يعكس الانقسام بين الغرب والشرق ولكن ليس بين رواد "مملكة" التواصل الاجتماعي، فهؤلاء لديهم نقاط مشتركة سواء كانوا من الهند، الشرق الأوسط أو أوروبا.
ما هي أبرز النقاط التي يسيء الغرب فهمها عن الطائفية في الشرق الأوسط؟
أكثر النقاط تكراراً وخاصة من قبل الصحفيين والمحللين أن الطائفية شيء متأصل فينا لدرجة انها تكاد تنتقل بالجينات. لكن من وجهة نظري، الطائفية تعتبر ظاهرة جديدة نسبياً، بمعنى انها كانت رداً على فشل مشاريع الإصلاح السياسي الذي جاء بعد استقلال الدول العربية. طبعاً، بالعودة إلى التاريخ نجد أن الأقليات كانوا مضطهدين خصوصاً من قبل السلالات الحاكمة المنحدرة من الغالبية، السنية كالعثمانيين. لكن تلك الاضطهادات تختلف عن الطائفية في وقتنا الحالي.
في ستينيات وسبعينيات هذا القرن كان هناك جيل كامل يعتبر نفسه علماني ومثقف. عندما بدأت الحرب الأهلية عاد الكثير منهم لينضم إلى طائفته. ليس هنالك تعصب طائفي ممتد ومستمر عبر القرون، بل هي حركة مؤقتة ظهرت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. العديد من المنتسبين لحزب الله كان لديهم فكر شيوعي متعصب سرعان ما تحول إلى انتماء طائفي.
وبالنسبة للمسلمين؟
سؤال مهم بالفعل. لأن المزيد من الناس يتقبلون هذه الرواية الغربية عن الطائفية. ويعلقون في منطق هذه النظرية، حيث ان ازدياد اعداد الناس في طائفة أخرى يعتبر، تلقائياً، كتهديد. لذلك بدأت هذه الجماعات تنظر لنفسها كما ينظر الغرب لهم. لكن الشيء المثير للاهتمام أن هذا الشعور يثيره الشعور كالضحية. مثال من لبنان: يشتكي السنة من ان حزب الله يستطيع الاحتفاظ بالسلاح فينتهي الأمر مع بعض الجماعات السنية بان يجمعوا السلاح.
شعور الضحية هذا يظهر لنا كيف تكون الطائفية بالنسبة للبعض. ولضمان استمرار هذا الشعور يجب عليهم العودة إلى قصص العداوات الأزلية خاصة بين السنة والشيعة: لقد أهنتم هذا الشخص! لقد قتلتم فلان! فهم ينشرون هذه المعتقدات، من دون استيعاب ان كان هناك تعايش سلمي لقرون لم تهتم بهذه التفرقة.
عندما يتعرف شخصين لبنانيين على بعضهم، أول ما يفعلونه هو التأكد من طائفة الآخر.
هذا أمر عادي. فنحن نشأنا على هذا، حتى وإن كان أحدنا يعتبر نفسه ليس طائفياً فيعتاد على هذا النوع من الأسئلة حتى يصبح أمراً طبيعياً. لكن بالطبع هناك درجات. مسألة الطوائف أمر تم الاجماع عليه سياسياً في لبنان وعليه تكونت الحكومة، فالنظام لدينا يغذي هذه الحاجة لتعريف الآخر.
هذا النظام يساعد الطائفية بالازدياد بشكل يومي وفي جميع نواحي الحياة. "لماذا يغادر المسلمين العمل قبل ساعة على انتهاء الدوام يوم الجمعة؟" أو "لماذا يحظى المسيحيين بأيام عطلة أكثر؟" هذه أمثلة لتساؤلات تعتاد سماعها من موظفي الدولة.
هذا يزيد الشعور بالاستياء من أنك في لبنان تجد نفسك تحت المجهر الطائفي وبالتالي انت مجبر على الانخراط بعملية تعريف الآخر. لأنه الوسيلة الأقرب إليك. ولكن يجب ان تفرّق بين الحديث العلني أو على نطاق ضيق. فالحديث بشكل علني يكون باستخدام عبارات مؤدبة وغير طائفية أما عندما تفكر بينك وبين نفسك أو تتحدث مع عائلتك تستطيع التحدث بكل طائفية.
معرفتك خلفية الشخص الذي تتكلم معه تجعلك قادر على انتقاء التلميحات المبطنة او المجاهرة بآرائك السياسية. حيث تلاحظ هذا في التكسي: فمجرد أن يركب اللبنانيون التكسي يتكلمون بالسياسة. حيث يبقون الحديث بشكل عام حتى يتأكدون من طائفة باقي الركاب. مثلاً، إذا تأكدوا أن الجميع مسلم يتطرقون لمواضيع لا يستطيعون التحدث عنها في حال وجود مسيحيين في السيارة.
أخبرنا عن خطوات تحديد الطائفة.
لقد عرض البرنامج الكوميدي اللبناني "أسأل شي" مقطعاً مضحكاُ عن هذه العملية. فتاة شابة جاءت بصديقها ليلتقي بأبيها. فسأله الأب عن اسمه، لأنه في حال كان اسمه محمد فهو مسلم وإن كان اسمه جورج فهو مسيحي. لكن اسمه كان من الأسماء المحايدة التي لا يستطيع تحديد الطائفة من خلاله، فانزعج الأب من ذلك.
لذلك سأله أين يسكن، لأنه إذا كان يسكن في جونيه، الواقعة في شمال بيروت، فهو بالتأكيد مسيحي أما إذا كان منزله في الضاحية، الواقعة في جنوب بيروت، فهو غالباً شيعي. جاوب الشاب: "أنا من بيروت"- وهذا لا يفسر شيء. فما كان للأب إلا ان انهال عليه بفيض من الأسئلة التي زادت من احباطه. لدينا قائمة طويلة من الأدلة لتحديد الطائفة من ضمنها الشكل الخارجي. أحياناً مواقف مضحكة تترتب على هذا: مثلاً شاب مسلم ولسبب من الأسباب كان اسمه ليوناردو. عندما يُعرِّف باسمه يبدأ بسماع العديد من العبارات ضد المسلمين. فعندما يفصح عن طائفته يكون الموقف جداً محرج ولكن مضحك في الوقت ذاته حيث أصبح الشخص الآخر محل سخرية. في حال كان الشخص غير متمرس في هذه المراوغة، فسيضع نفسه في موقف ساخر.
وما هي السمات الجسدية التي تعرّف الشخص؟
قامت المنظمة اللبنانية الغير حكومية "الحركة اللبنانية لحقوق الانسان" بإنشاء مكتبة الكترونية للصور النمطية مثل: النساء المسيحيات فاسقات والشيعة لديهم شعر أجعد متسخ. هذه الأحكام المسبقة بالطبع ليست صحيحة لكن الناس احياناً يصدقونها ويعملون بها لحل شيفرة التعريف الطائفي.
كيف ومتى كانت آخر مرة سُئلت عن طائفتك؟
لن تُسأل أبداً بشكل مباشر عن طائفتك! وهذا شيء مضحك عندما أقارنه بتجربتي في لندن. عندما أخبر أي أحد أنني من لبنان، فهم يسألونني على الفور إذا كنت مسلماً. وهذا كثيراً ما يحدث مع سائقي التكسي الباكستانيين والبنجلادشيين الذين يحبون أن يتأكدوا إن كان الشخص الذي يتحدثون معه مسلم.
في لبنان، لا يستغرق الأمر طويلاً لتحديد الطائفة، فهناك مجموعة من الأدلة التي تدل على الهوية. في أحد المرات كنت أتجول مع أصدقائي في منطقة في غرب بيروت. كنا نتأمل كنيسة لدراسة عمرانها. فكان هناك شاب بجانبنا جزم بأننا مسلمين لأننا كنا نتجول في تلك المنطقة وبدء يتبجح بأن الكنيسة كان يجب أن يتم هدمها في الحرب كي لا يعودوا المسيحيين إلى المنطقة. هذا النوع من المواقف يحدث عندما يصنفك أحدهم تصنيف خاطئ.
وكيف تتصرف في هذه الحالة؟
لدي حس فكاهة ملتوي بعض الشيء، إذا حدث لي مثل هذا الموقف ولاحظت أن الشخص الذي أمامي يريدني أن أكون مسلم، سأتابع مجاراته فقط من أجل الضحك. يمكن أن يتطور هذا الموقف لينتهي بحديث شيق لكن هذا يعتمد على الموقف. إذا بدا لي الشخص منطقي وفضولي يمكن أن اعطيه محاضرة عن البنية الديموغرافية للشرق الأوسط. انا شخص ذو خلفية مسيحية ولكني ملحد لذلك لدي مساحة مناورة أكبر للعلب بتلك القوالب النمطية. حسب اعتقادي فإن الناس الذين يصنفون نفسهم حسب هويتهم الطائفية يُصعِّبون العيش على أنفسهم.
هل اللبنانيون هم السباقون بتحديد الطائفة؟ ما هي الفروقات التي لاحظتها من خلال مخالطتك لباقي الجنسيات العربية؟
لقد أوجد اللبنانيون نظام خاص بهم وطوروه ليصبح شيئاً مثل فن الاتيكيت وذلك تجنباً للمواقف المحرجة. فالسوريون والعراقيون يعانون في الوقت الحالي من انقسام حاد فيما بينهم. فالأمر ليس مقتصر فقط على المواقف الاجتماعية المحرجة بل يصل إلى الخطف والقتل. الأمر مشابه لما كان يحدث في لبنان أيام الحرب الأهلية أكثر منه في أيامنا هذه.
هل السخرية من الصور النمطية الطائفية، يمكن أن يضع هذه الصور موضع شك؟
نعم! ولهذا أقوم بهذا. العديد من الناس يتحسسون من هذا النقاش لاعتقادهم بأن السخرية من الصور النمطية يزيد من انتشارها بين الناس. وأنا أجد هذا سخيفاً، لكن يعتمد على طريقة السخرية. فهذا الأسلوب ينجح إذا قمت بتقويض المنطق القابع وراء كل صورة. فالأشخاص المتحيزين ليسوا بأذكياء بل هم أغبياء بالفعل. لهذا من السهل خداعهم بأسلوب المزاح هذا. ليس طموحي ان اجعل "توعية الناس" مهمتي الاجتماعية، فهذا ضرب من خيال. لكن من موقفي السياسي، هذه الطريقة تخرب السلوك الطائفي وتسخر منه.
ما هي ردود الفعل التي تتلقاها على الانترنت، عندما تمس قضايا طائفية مقارنة بالردود على مواضيع أخرى؟
أتلقى العديد من الردود الايجابية. لكن تبقى مواقع التواصل الاجتماعي وسطاً غريباً لأن كتاباتك تصل فقط إلى جمهور لديه نفس أفكارك. حاملي الفكر الطائفي لا يحاولون اسكاتي لأن الهجاء الساخر ليس ضمن نطاق رؤيتهم وهذا يحدث فقط عندما أسخر من قادة طائفيين.
ما هي النكتة الطائفية المفضلة لديك؟
أكثر شيئين أكرههما في الحياة هما الطائفية والشيعة.
كارل شرو، الملقب بكارل ريماركس، هو معماري، معلق و ناقد لمواضيع تخص الشرق الأوسط. لقد تم عرض كتاباته و أفكاره على الجزيرة، بي بي سي، The Economist, Foreign Policy و The Atlanticو العديد من وسائل الاعلام الأخرى. شارك بكتابة فكرة مشروع مانيفستو Manifesto: لإنسانية جديدة في الفن المعماري. قامت صحيفتي التايم ووول ستريت بتوصية حسابه على تويتر على انه افضل حساب للمتابعة. حسابه على التويتر @karlreMarks مدونته: www.KarlreMarks.com