يقع على عاتق الحكومة المصرية توفير أنواع الحبوب اللازمة لإنتاج الخبز بتكلفة تقارب 3 مليار دولار امريكي سنوياً، و الفساد المنتشر ضمن هذا البرنامج يزيد من العبء.
رغيف الخبز، أو كما يحلو للمصرين تسميته " العِيْشْ "، ملك موائدهم، والحاضر الدائم عليها. إذ قلّما تجد مائدة مصرية لا يكون رغيف الخبز حاضراً بين أفرادها، على اختلاف وضعهم الاجتماعي أو مستواهم المعيشي، فالمعيشـة والعِيْشْ مترادفان ومشتقان من الحياة نفسها، ومن هنا جاءت مقولة، "لا عَيشٌ بلا عَيشٍ".
لا عَيشٌ بلا عَيشٍوفقاً لآخر إحصائية صادرة عن الجّهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يستهلك حوالي 55 مليون مواطن مصري مادة الخبز بشكل يومي، أي ما يقارب 10 ملايين طن من الحبوب اللّازمة لإنتاج هذه الكمّية على مدار العام.
يقع على عاتق الحكومة المصرية توفير أنواع الحبوب المختلفة اللازمة لإنتاج مادة الخبز سنوياً، سواءً كانت هذه الحبوب محلّية المصدر أو مستوردة، وتقدّر تكلفة تحويل هذه الحبوب إلى مادة الخبز، ما يقارب 27 مليار جنيه مصري، أي ما يعادل 3 مليارات دولار أمريكي سنوياً.
كشفت لجنة "تقصي حقائق القمح" في مجلس النواب المصري، عن اختلاسات في منظومة توريدات الحبوب قُدّرت بحوالي 559,7 مليون جنيه مصري، وذلك بعد أن قامت بـزيارات إلى 12 موقع لتخزين القمح (صومعة أو شونة) فقط! وأدّى ذلك إلى استجواب وزير التّموين المصري السابق "خالد حنفي" في شهر آب أغسطس الماضي، وعلى إثر هذه الأزمة قدّم الوزير "حنفي" استقالته بعدها بساعات.
وبسبب الفساد الذي سيطر على مفاصل منظومة إنتاج الخبز عامّةً، ابتداءً من إنتاج القمح واستيراده، مروراً بمرحلة التخزين والتعبئة، وصولاً إلى منظومة البطاقة الذكية أو (منظومة الكارت الذكي كما هو متعارف عليه في مصر)، قد يواجه المصريون أزمة جديدة في رغيف الخبز بعد 3 أشهر من الآن، خاصّة بعد أن أعلنت وزارة التّموين المصرية في آب / أغسطس الماضي، أن احتياطي القمح يكفي حتى شهر شباط / فبراير المقبل فقط، والجدير بالذكر أن الحكومة المصرية بدأت بتطبيق منظومة البطاقة الذكية / الكارت الذكي سنة 2014.
هناك بعض المخابز ما زالت تبيع الدقيق في السوق السوداءماهي منظومة البطاقة الذكية / الكارت الذكي؟
تقوم مديريات التموين بتوزيع مادة الدقيق على المخابز طبقاً لطلب كل مخبز وبدون حد أقصى، لتقوم هذه المخابز بدورها في إنتاج مادة الخبز " العِيْشْ ". يتوجه المواطن إلى هذه المخابز حاملاً بطاقة التموين الذكيّة، والتي تنظم حصّة الفرد من مادة الخبز، يحصل بموجبها كل فرد على 5 أرغفة كحد أقصى في اليوم الواحد، أي ما يعادل 150 رغيف في الشهر، وبالتالي تحصل الأسرة المكوّنة من 6 أشخاص على 900 رغيف شهرياً، علماً أن الحد الأقصى لعدد أفراد الأسرة الواحدة المسموح تسجيلهم في البطاقة الذكّية هو 6 أفراد فقط، وتقوم شركات مختصّة بشحن البطاقات الذكية بالحصّة الشهرية المقررة للمواطنين من مادة الخبز.
كيف يرى المصريون منظومة الخبز الجديدة؟
تباينت آراء المواطنين في العديد من مناطق محافظتي القاهرة والجيزة حول تطبيق المنظومة الجديدة لبيع وتوزيع الخبز باستخدام البطاقات الذكية، حيث أشاد بها البعض، بينما اعترض آخرون على تطبيقها لشعورهم بعدم كفاية المخصّصات، أو لغياب الرقابة الحكومية على المخابز.
يقول "محمد علي" وهو موظف متقاعد: "إنّ منظومة التموين والخبز الجديدة، ضَمِنت وصول الدّعم الذي يستحقّهُ المواطن البسيط" وأضاف أيضاً: "بعد تطبيق المنظومة الجديدة، أصبح المواطن يحصل على سِلَع تموينيّة متميّزة بعد أن كان يحصل على سلع تموينيّة ومواد غذائيّة سيئة، كالأَرز المُكَسَّر أو الزيت الرديء"
فيما أشتكى البعض مِمن يتخطى عدد أفراد عائلته الستّة أفراد، حيث يتوجب عليهم شراء الخبز الغير مدعوم من قبل الحكومة ضمن برنامج البطاقة الذكية، ويضيف هؤلاء: "إن مفتّشي التموين لا يقومون بالرّقابة الكافية على المخابز، وهناك بعض المخابز ما زالت تبيع الدقيق في السوق السوداء للمخابز السيّاحية، التي بدورها تبيع الرّغيف بـ 50 قرشاً مصرياً."
عدم وصول الدعم لمستحقيه، يزيد من أعباء الحكومة المصريةأما "كامل الزيني"، وهو محاسب في أحد الشركات الخاصّة، يرى في هذا الشأن: أن المواطن المصري البسيط ضحية مخالفات أصحاب المخابز، سواءً من عمليات التصريف الوهمية لمادة الخبز، أو من التلاعب في حجم الرغيف ووزنه، إذ تقوم بعض المخابز بسرقة البطاقات الذكيّة الخاصة بالمواطنين وتدّعي ضياعها، لتتمكن بعدها من الاستيلاء على حصتهم اليومية من الخبز والسِّلَع المدعومة، ولذا على الحكومة أن تتخذ موقفاً حازماً تجاه أصحاب المخابز، كون المتضرر من إهمال الحكومة في هذا الشأن هو المواطن المصري."
هل استفاد 90% من الشّعب المصري من منظومة الخبز حقاً؟
في برنامجها للعام 2016-2017، قالت الحكومة المصرية: "إن 90% من الشعب المصري يستفيدون من منظومة الخبز الجديدة"، ما يعنى أن 83 مليون مصري يحصلون على مادة الخبز باستخدام المنظومة الجديدة، لكنّ تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية الصادر في 25 آب أغسطس 2016، اعتبر أن هذا أمر غير واقعي شكلاً ومضموناَ، لأنه ووفق إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، هناك 55 مليون مواطن مصري فقط ممن يستحقوا الدّعم على مادة الخبز.
الخبز في أعين الخبراء
قال النائب البرلماني المصري "ياسر عمر" وكيل لجنة الخطة والموازنة وعضو لجنة تقصي حقائق القمح في تصريح له: أنَّه وعلى الرغم من ادّعاء الحكومة بأن منظومة الخبز الجديدة خفّضت من استهلاك القمح، ومنعت تسريبه إلى السوق السوداء، إلا أن المنظومة كشفت أن القمح المحلي، كان يتم توريده إلى المطاحن وطحنه مباشرة، دون تسجيله في المخازن، وبالتالي عدم توثيق هذه الكميات رسمياً، مما فتح الباب أمام أعمال توريد وهمية، ودخول كميات غير مسجّلة، وخلط القمح المحلى مع القمح المستورد.
ومن جانب آخر، أكد رئيس شعبة المخابز بالغرفة التجارية التابعة لوزارة التموين "عطية عيد حماد": أنه بعد التّطبيق الفعلي لمنظومة الخبز الجديدة، تبيّن بالفعل وجود مشكلات ومعوقات واجهت أصحاب المخابز، تتلخص هذه المشكلات في عدم وجود قاعدة بيانات إلكترونية للمواطنين قبل بدء تنفيذ المنظومة، ممّا أدى إلى حدوث فساد، وإهدار للمال العام، كما أن عدم وصول الدعم لمستحقيه، يزيد من أعباء الحكومة المصرية اقتصادياً.
ايضاً كان هناك اختراق للنظام الالكتروني من قبل بعض الموظفين في شركات البطاقات الذكية، فضلاً عن تدنّي جودة الدقيق في بعض المطاحن، مما أدى إلى تدنّي جودة رغيف الخبز ذاته، كما أن غياب وجود صيغة عمل واضحة بين كل من وزارة التموين، وشركات البطاقات الذكية وأصحاب المخابز، تتحدد فيها حقوق وواجبات كل طرف، أدى إلى تعمّق المشكلة أكثر فأكثر.
بعد قضية الفساد في ملف "القمح"، حاولنا التّواصل مع أصحاب الشركات المتعاقدة مع وزارة التموين المصرية، والتي تصدر هذه البطاقات الذكية، إلا أنهم رفضوا الإدلاء بأي تصريحات في هذا الشأن.
في الوقت الحالي، أكّد رئيس مجلس الوزراء المصري، المهندس "شريف إسماعيل"، خلال حوار أجراه مع مجموعة من كبار الكتاب والمفكرين يوم 19 تشرين أول/ أكتوبر، إن الحكومة تدرس التوجه للدعم النقدي بدلًا من الدعم العيني الحالي، شريطة أن يتم ذلك تدريجياً، ما يعني أن الحكومة المصرية في طريقها ربما لإلغاء تلك المنظومة وبدء منظومة جديدة لم تتكشف ملامحها بعد.