منذ إندلاع الثورة الليبية في عام 2011، أضحت ليبيا ساحة قتال كبيرة متعددة الجبهات، الأمر الذي جعل العمالة المصرية في ليبيا تحت مرمى نيران الخطف والقتل، فقرر بعض منهم البقاء، وبعض آخر قرر العودة إلى مصر. إلا أن البعض عاد وسافر إلى هناك من جديد.
في الصباح يوم ١٥ فبراير ٢٠١٥ خرج الرجل السبعيني "ميلاد"، صعيدي الهيئة والمنشأ، وسط الحشود المتوجهة من محافظة المنيا إلى الكاتدرائية المرقسية بمنطقة العباسية وسط القاهرة، يطالبون بعودة ذويهم -عمال مصريون في ليبيا اختطفهم تنظيم داعش- يهتفون، يتضرعون، يبكون، بعد أن هدد التنظيم، في مقال نُشر على مجلته "دابق"، بقتلهم.
في مساء اليوم ذاته وبعد عودة ميلاد إلى منزله في صعيد مصر، صرخ الرجل مثكولاً، بينما يشاهد ابنه "جرجس" يُذبح أمام عينيه، في مقطع فيديو بعنوان "رسالة موقعة بالدماء لأمة الصليب". أُعدم جرجس برفقة 21 عاملًا مصريًا آخرين تم اختطافهم من مساكنهم في مدينة "سرت".
وفي يوم ٢٣ فبراير ٢٠١٥ مسح العامل المصري، ذو الـ٢٥ عاماً، أحمد عادل، غبار السفر عن جبينه، بعدما نزل إلى منفذ السلوم الحدودي -هضبة تفصل مدينة السلوم المصرية عن مدينة مساعد الليبية- أجبرته الشرطة الليبية على العودة إلى مصر، على اثر الضربات الجوية التي شنها الجيش المصري على معاقل داعش في ليبيا ردًا على ذبح المصريين. يقول أحمد: "كنت عامل بناء في منطقة البيضة، منطقة بعيدة كل البعد عن الحرب والخطر، لكن الشرطة الليبية أجبرتنا على المغادرة، خوفًا من أن يتم اختطافنا مثل غيرنا".
لم تكن واقعة اختطاف وذبح العمّال المصرين الأقباط الـ٢١ هي الأولى في شريط المخاطر التي تحفّ طريق العمالة المصرية في ليبيا، ولم تكن الأخيرة أيضًا، فمنذ الإطاحة بنظام معمر القذافي عام 2011، تحولت ليبيا إلى ساحة قتال كبيرة، وأصبحت الأسلحة في متناول يد الصغير قبل الكبير، وأصبحت موازين القوى المسلحة تتقلب بين ليلة وضحاها.
في ظل هذه الظروف أصبحت العمالة المصرية في ليبيا، التي قدرتها وزارة القوى العاملة في مصر قبل اندلاع الثورة الليبية بـ2 مليون شخص، في مهب الخطف والقتل، والاستغلال، وسوء المعاملة.
بدأت هذه الموجة منذ يناير ٢٠١٤، حينما اختطف خمسة موظفين من السفارة المصرية في ليبيا، بعد أن اعتقلت القوات المصرية المواطن الليبي شعبان هدية، وفي فبراير من العام نفسه اختطف سبعة عمال مصريين في بنغازي، ثم قتلوا رميًا بالرصاص. كما قُتل طبيب وزوجته في سرت، في أواخر ٢٠١٤، واختطفت ابنتهما، ثم عُثر على جثتها بعد أيام.
عاد على إثر هذه الأحداث ٨٠٠ ألف مصري من ليبيا إلى مصر، وفقًا لبيانات وزارة الخارجية المصرية، كان من بينهم "أحمد عادل"، الذي قرر العودة إلى ليبيا مرة أخرى، مثل ٤٠٠٠ عامل غيره. يقول أحمد "لم أجد عملًا يجعلني أستطيع أن أتزوج فقررت أن أعود"، فعامل البناء الذي يحصل على أقل من ١٠٠ جنيه في وطنه إذا عمل يوما، لا يجد هذا العمل في اليوم التالي، فلا يُحصل في الشهر أكثر من ٥٠٠ جنيه، على حد قوله، لكنه من خلال العمل في ليبيا يستطيع تحصيل ما يعادل ٣٠٠٠ جنيه مصري، إلا أن هذا له وجه آخر.
"جحيم الغربة أهون عليّ من نيران البطالة"
"أتعرض للإهانة يوميًا كي أحصل على هذه الأموال"، يقول أحمد، يشكو من سوء معاملة صاحب العمل له ولغيره من زملائه المصريين، يستبيح إهانتهم، ويحرم من يرد هذه الإهانة من الأجر، أما إذا تجرأ أحدهم وذهب يشكوه إلى الشرطة، فيرسل إليه مسلحًا يضربه، ولن يواجه عاقبة لأفعاله تلك.
بين جحيم الغربة ونيران البطالة على أرض الوطن، يقف أحمد مكتوف الأيدي، يحلم بالعودة، يعتصر قلب ذويه قلقًا عليه، لكنهم لا يحثونه على العودة " يقولون لي تحمل حتى تستطيع أن تتكفل بمصروفات بيت وزوجة".
"أنا لا أحب الغربة لكنها قدر"
مثل "أحمد" تمامًا، قرر هيثم -23 عامًا- العودة إلى ليبيا، رغم أنه اختطف أواخر عام 2015، ضمن 20 عاملًا مصريًا في مدينة "زلة" الليبية، على أيدي جماعة مسلحة لمدة 20 يومًا، قبل أن تعيدهم السلطات المصرية بالتعاون مع الحكومة الليبية مرة أخرى إلى مصر، وبعد شهرين فقط عادة مرة أخرى.
"أنا لا أحب الغربة لكنها كتبت علي"، يقول هيثم، الذي لا يجد بديلًا عن السفر إلى ليبيا، من وجهة نظره، بطريقة شرعية أو غير شرعية كي يعول أسرته بعد أن توفي والده. عاد هيثم إلى "زلة" المدينة نفسها التي يذكره كل شبر فيها بواقعة اختطافه، "كنت محبوسًا مع 20 عاملا أغلبهم من الأقارب داخل نفق تحت الأرض لمدة 20 يومًا لا نأكل إلا لقيمات قليلة، ونموت رعبًا كلما انفتح الباب"، كانوا يظنون أنهم سيذبحونهم أو يرمونهم بالرصاص، مثل الذين قُتلوا من قبلهم.
وبعد العودة لم يتغير شيء، لازال "هيثم" يتحمل إهانة أرباب العمل بنفس راضية، يخشى مجرد نشوب مشادة كلامية مع أي مواطن ليبي، خوفًا من الخطف أو القتل. وبعد تكرار حوادث اختطاف وقتل المصريين في ليبيا، قررت الحكومة المصرية حظر سفر المصريين إلى ليبيا نهائيًا، وفُتح معبر السلوم أمام العائدين فقط، إلا أن هذا شرّع الأبواب للهجرة غير الشرعية، والتيه في الصحراء والموت عطشًا.
في شهر يوليو من العام ٢٠١٥، عثرت منظمة الهلال الأحمر الليبي على جثث ٤٨ مهاجرًا غير شرعي في الصحراء بين مدينتي أجدابيا وطبرق، وأصدرت بيانًا جاء فيه أن "الضحايا كانوا في طريقهم إلى ليبيا بطرق غير شرعية للعمل هناك، وفي الطريق تاهوا في الصحراء بحثًا عن الماء".
في أعقاب الحادث نشر مدير الإدارة العامة للتفتيش والمتابعة بطبرق، صالح منصور سليمان، مقطع فيديو يفيد بأن بعض الجثث التي وجدوها كانت في حالة تعفن، ما رجح وفاتهم قبل عدة أيام، وكشفت متعلقاتهم أن أغلبهم جاء من محافظات الصعيد، خاصة المنيا وأسيوط.
تكرر هذا الحادث بعد عامين، حينما انتشل رجال الهلال الأحمر الليبي، من صحراء واحة جغبوب، ١٩ جثة تعود لمواطنين مصريين، وكشف بيان الهلال الأحمر أنهم دخلوا إلى ليبيا سيرًا على الأقدام، ولقوا حتفهم من شدة العطش بعد أن ضلّوا الطريق في الصحراء.
أضف إلى هؤلاء 160 عاملًا مصريًا قُتلوا أثناء أحداث الثورة على القذافي، بحسب بيانات وزارة القوى العاملة المصرية.
رغم كل هذا استمر اصطفاف العمال المصريين أمام أبواب السفارة الليبية في حي الزمالك، بالعاصمة القاهرة، على أمل الحصول على تأشيرة دخول إلى الدولة الشقيقة، ما دفع السفارة إلى اصدار بيان مكون من عبارة مقتضبة، تنص على أن: "تقرر وقف العمل بمنح تأشيرات الدخول إلى ليبيا بكافة أنواعها للأخوة المصريين إلى حين إشعار آخر".
ودعت تلك الأحداث لتحرّك مجتمعي لمواجهتها، فأطلق أمناء اتحاد القبائل العربية بالمحافظات المصرية حملة تحذر الشباب المصريين من السفر إلى ليبيا، يقول جمال الجازوي، أمين الاتحاد في محافظة المنيا "أن السفر إلى ليبيا مازال خطرًا على أرواح الشباب المصريين، خاصة وأن الشباب أصبح يطرق أبوابًا غير شرعية للسفر، تعرضهم للموت والتيه والخطف، وتسلبهم الكثير من حقوقهم، وتجعلهم مذنبين أمام الدولة والقانون".
أكد الجازوي أن اتحاد القبائل العرب يحاول جاهدًا التدخل لحل أزمات العمال المصريين في ليبيا، وتسوية أي خلافات بينهم وبين أرباب العمل، وتسهيل عودتهم إلى أرض الوطن.
لكن العمدة مهدي، عضو مجلس النواب عن دائرة مطروح، وأحد القادة المجاتمعيين في مدينة السلوم الحدودية، ندد بقرار حظر سفر المصريين إلى ليبيا عبر منفذ السلوم، وتقدم بطلب إحاطة إلى مجلس النواب يشير فيه إلى النتائج العكسية التي نتجت عن الاستمرار في القرار، والتي تبلورت في زيادة جرائم الهجرة غير الشرعية، والقتلى في صحراء ليبيا. يقول النائب البرلماني منفعلًا: "هناك أكثر من ٢٥ ألف محضر رسمي يفيد بتسلل المواطنين إلى ليبيا. منهم من قبض عليهم، ومن مات، ومن فُقد".
يرى العمدة مهدي أن الحل الأمثل لدرء هذا الكم من الحوادث، هو تعديل القرارات الوزارية التي تحظر سفر الشباب المصري إلى ليبيا، والتي كانت تنص على أن دخول شاحنات البضائع المصرية حتى مدينة مساعد الليبية، دون التوغل في الأراضي الليبية، وقصر سفر المصريين إلى ليبيا على أبناء محافظة مطروح فقط، سيرا على الأقدام من منفذ السلوم إلى منفذ مساعد الليبي، بهدف التجارة البينية، والمصريين المتزوجين من ليبيات، أو الليبيين المتزوجين من مصريات، وأبنائهم. كل هذا يتم بالتنسيق مع الجهات الأمنية، للحصول على الموافقات اللازمة.
ظل الوضع على ما هو عليه، حتى بعد أن التقى وزير القوى العاملة المصري، محمد سعفان، بوزير العمل الليبي، مهدي أمين، الذي أكد له حاجة الدولة الليبية للعمالة المصرية، بعد استقرار الأوضاع فيها نسبيًا. وجاء على لسانه في بيان صادر عن وزارة القوى العاملة المصرية في أبريل 2018: " ليبيا فى أمس الحاجة إلى العمالة المصرية الماهرة بمختلف فئاتها، سواء حرفية أو أكاديمية أو مهنية، الأمر الذي سيساهم في إعادة إعمار ليبيا من الدمار الذي طالها خلال السنوات الماضية خاصة مدينتي سرت وبنغازي".
إلا أن وزيرة الهجرة المصرية، نبيلة مكرم، صرحت خلال مبادرة أطلقتها العام الماضي، بعنوان "اسأل واقترح مع الوزيرة"، أن قرارات حظر سفر العمالة المصرية إلى ليبيا مازالت مستمرة، حرصًا من الدولة على حياة المصريين، بسبب عدم استقرار الأوضاع هناك.
"وجودي إلى جوار عائلتي يهون ضيق الحال"
استجاب "حمادة" لنداءات الحكومة المصرية ولم يحاول العودة إلى ليبيا مرة أخرى منذ ان عاد في عام ٢٠١٥، "بعد الذي رأيته هناك لا أستطيع أن أعود"، كان "حمادة" يعمل في مدينة سرت، وكان شاهدًا على عدد من حوادث الخطف، كان من بينهم أبناء عمومته، لذا عاد على الفور ما إن سنحت الفرصة، ولم يرجع إلى هناك أبداً.
ظل الثلاثيني يبحث عن عمل لمدة ٦ أشهر في مصر، حتى استطاع الحصول على وظيفة سائق سيارة أجرة، مقابل ٢٥٠٠ جنيه شهريًا. بالطبع لا يكفي ذاك المبلغ ليفي بإلتزاماته، ولا يقضي احتياجات عائلته الشهرية، لكنه راضٍ ومتأكد من قراره، لن يسافر إلى ليبيا مرة أخرى، يقول حمادة: "وجودي آمنا إلى جوار أسرتي يهون عليَّ ضيق الحال، ويحميني من ويلات الغربة".
لا ينكر "حمادة" أن فكرة السفر تراوده أحيانًا، خاصة حينما يصل ضيق الحال إلى ذروته، في إحدى المرات مر بأزمة مالية جعلته يطلب من أحد أقاربه مساعدته للسفر إلى ليبيا مرة أخرى بطريقة غير شرعية، لسد رمق أبنائه، لكن عائلته رفضت الفكرة برمتها، وتمكنت من إعادته إلى صوابه.
وأخيرًا، البقاء له أسبابه، والعودة أيضًا. لكن على ما يبدو ان دافع الفقر اقوى من رادع الخطف والموت!