ارتفاع للأسعار، ازدحام للمساحات المخصصة للبناء، وتحولها إلى تجارة متداولة. هذا هو حال المقابر في مصر، تلحقها مشقة مادية أخرى متعلقة بخدمات الدفن والتكفين، مما جعل من الموت راحة للمتوفى وهمًا ثقيلًا لأهله.
تتعدد المقابر العامة في مختلف محافظات مصر، حيث يتعاقد المواطن مع الدولة على تخصيص مساحة معينة داخل المقبرة بنظام حق الانتفاع، لبناء قبر عليها على نفقته الشخصية، ويتسع عادةً لعدد من أفراد عائلته، كما تقوم بعض شركات المقاولات ببناء المقابر، بعد الحصول على أراض مرخصة، وطرحها للبيع للمواطنين.
ويعاني المواطنون في عدة محافظات من ازدحام المدافن العامة، وعدم وجود مساحات كافية لبناء قبور جديدة داخلها، وقد جرت العادة على دفن أبناء العائلة الواحدة بنفس الجبّانة، مما زاد من ظاهرة التكدس.
وعلى الرغم من وقف تصاريح بناء مقابر جديدة داخل الجبانات المعتمدة منذ نحو ٢٥ عام، إلا أن بعض المواطنين يقومون بدفع رشاوي لعمال الدفن، بلغت نحو ٧ آلاف جنيه مصري، مقابل بناء قبر جديد داخل الجبانة وذلك بالتحايل على القانون.
كما أتاحت هذه الأزمة الفرصة أمام العديد من أصحاب الأراضي المجاورة للجبانات لاستغلال حاجة المواطنين، وبيع الأراضي بأسعار مرتفعة لبناء مقابر، دون الحصول على التصاريح اللازمة من الجهات الإدارية، حيث بلغت مساحة ٩ متر مربع مبلغ ٤٠ ألف جنيه في محافظة كفر الشيخ.
أن الدولة قد قدمت حلولًا؛ إلا أنها غير واقعية
ويعمل المسئولين بالمحافظة على مواجهة أزمة التكدّس من خلال قرارات استثنائية، حيث تم نزع ملكية ١٧٣٢٥ متراً مربعاً من أراضي أحد الأهالي وتعويضه ماديًا، لبناء مقابر لصالح مركز بيلا بالمحافظة، وتم تحديد سعر المقبرة التي تحتوي على لحدين بمبلغ ٥٧٠٠ جنيهًا، ومع ذلك فقد امتلأت تلك المقابر، لتتجدد الأزمة.
وقد استجاب المسئولين في عدة محافظات أخرى إلى مطالب الأهالي، التي تنادي بزيادة المساحات المخصصة للمقابر، حيث قام محافظ قنا "عبد الحميد الهجان" في أكتوبر من العام الحالي بتخصيص مساحة 10 أفدنة خارج الكتلة السكانية لبناء مقابر لصالح مركز الوقف بالمحافظة، كما قامت محافظة الإسكندرية بطرح قطع أراضي بأسعار مخفّضة داخل مقابر الناصرية، على طريق مطار برج العرب، بسعر ١٦ ألف جنيه لمساحة ١٠ أمتار مربعة، في إطار التخفيف من معاناة المواطن بحسب بيان المحافظة.
ويرى "مسعود جابر"، الذي يعمل كحانوتي في مقابر كرموز، إحدى أكثر المقابر العامة ازدحامًا بمحافظة الإسكندرية، أن الدولة قد قدمت حلولًا لازدحام المقابر؛ إلا أنها حلول غير واقعية بحسب تعبيره، ويكمل: "لقد تم بناء مقابر كرموز منذ العصر الفاطمي، وبالطبع ازدادت الكثافة السكانية بالمدينة وبالتالي كان لابد من توسيع رقعة المقابر، إلا أن الدولة قامت ببناء مقابر في مناطق بعيدة متجاهلة عادات وتقاليد المواطن الذي يفضل دفن العائلة الواحدة في نفس النطاق."
على صعيد القطاع الخاص، تقوم العديد من شركات المقاولات ببناء وإعادة بيع المقابر، إلا أنها لم تخلق متسع يسهم في حل أزمة التكدس نظرًا لارتفاع أسعار البيع بشكل ملفت. وقد تقدّم، في وقت سابق من هذا العام، النائب "خالد مشهور"، عضو اللجنة التشريعية بمجلس النواب، بطلب إحاطة إلى رئيس مجلس الوزراء الدكتور "مصطفى مدبولي"، بشأن ارتفاع أسعار المقابر. وأوضح في بيانه أنها صارت تجارة رابحة بعد أن وصلت قيمتها إلى أكثر من ٤٠٠ ألف جنيه، متفوقة على أسعار الوحدات السكنية بالأماكن المميزة، بحسب تعبيره.
وقد أقرنت بعض التقارير ارتفاع أسعار بيع المقابر بقرار تعويم الجنيه المصري الذي صدر في نوفمبر عام ٢٠١٦، حيث ذكر موقع المونيتور أن السعر الأدنى لمدفن مساحته ٢٥ مترًا مربعًا في محافظة القاهرة بلغ ٥٥٠٠٠ جنيه مصري، بعد أن كان سعر نفس المساحة يبلغ حوالي ٢٠٠٠٠ جنيه قبل التعويم. ويضيف التقرير أن تلك الأسعار هي فقط للمبيعات النقدية، حيث صار العديد من المشترين يتبعون خطة تقسيط لمدة ١٨ شهر، مما يعني اضافة مبلغ 10,000 جنيه على السعر الأساسي.
ويتحكم في أسعار المقابر عدة عوامل، من ضمنها الموقع وعدد المقابر المتوفرة في نفس المنطقة الجغرافية، ويرى بعض العاملين بقطاع تشييد العقارات أن السبب الرئيسي في ارتفاع أسعار بيع المقابر يرجع إلى ارتفاع أسعار الأراضي التي تطرحها الدولة، حيث يقول "محمد توفيق" – مهندس معماري بإحدى الشركات العقارية بمحافظة القاهرة - أن سعر الأرض بمساحة ٤٠ متر بلغ ٩٠ ألف جنيه، بينما كان يبلغ سعر نفس المساحة ٤ آلاف جنيه قبل التعويم، كما أدى ارتفاع أسعار خامات البناء من أسمنت وطوب وحديد وجبس إلى التأثير على أسعار المقابر، حيث وصل سعر الطوب الوردي إلى ٢١٠٠ جنيه، بعد أن كان يقدر ب٨٠٠ جنيه منذ عامين.
إن امتنعت عن الدفع فإنهم يتركون الجسد في الثلاجة
لا تقف التحديات أمام المواطن محدود الدخل عند إيجاد أماكن الدفن فحسب، بل إن تكلفة خدمات ما قبل الدفن، مثل أجور عمال الدفن، تثقل من حمله.
ففي أعقاب التعويم، ارتفعت أجور عمال الدفن أيضاً. ففي الإسكندرية مثلاً، قفز مقابل اتعاب هؤلاء العمال إلى ٩٠٠٠ جنيه من مبلغ ٥٠٠٠ ما قبل التعويم، في الوقت الذي يحدد فيه المجلس المحلي بالمحافظة أجر الدفن رسميًا بـ ٨٠ جنيه.
ويرى "مسعود جابر" أن المبالغ المرتفعة التي يطلبها بعض عمال الدفن تعتبر استغلال لظروف أهل المتوفى الذين لا يملكون الاعتراض في هذا الظرف الجلل، لكنه على الجانب الآخر، يرى أن غياب الحقوق الرئيسية للعامل تدفعه إلى فرض هذه المبالغ، حيث لا يتلقى راتبًا ثابتًا على الرغم من تعيينه من جهة وزارة العدل، ولا يتوفر له بدل عدوى أو تأمين صحي وغيرها من الحقوق، بحسب تصريحه.
ويزيد من عناء المواطن فساد بعض الموظفين داخل بعض القطاعات الحيوية، وذلك بحسب أحد أشهر المغسلين بمدينة الإسكندرية ويدعى "حسين"، والذي شهد العديد من المواقف طوال فترة عمله في تغسيل وتكفين الموتى، فيقول إنه يفاجأ أحيانًا ببعض الموظفين في المستشفيات العامة الذين يطالبونه بمبلغ من المال مقابل السماح له بالدخول وغسل جثمان المتوفى الذي أتى من أجله، وذلك بما يخالف القانون، ويضيف قائلاً: "إن امتنعت عن الدفع فإنهم يتركون الجسد في الثلاجة ويتعمدون تأجيل الدفن." ويقول إن بعض المسعفين يقومون أحيانًا بنقل الضحية إلى المستشفى وقد فارقت الحياة، لتقوم المستشفى بمطالبة الأهل بمصاريف علاج وهمي. "أحيانًا يستدعيني الأهل لغسل الجثمان على إن المتوفى قد فارق الحياة في نفس اليوم لكني عندما أذهب إلى المستشفى أعرف، من وضع الجسد، أنه قد توفى منذ فترة."
وفي الوقت الذي تزداد فيه الأعباء المادية التي يتحملها المواطن، أعلن جهاز التعبئة العامة والاحصاء في ١٧ أكتوبر الماضي بالتزامن مع اليوم العالمي للقضاء على الفقر، ارتفاع معدلات الفقر في مصر، حيث وصلت النسبة إلى ٣٢,٥ ٪ من عدد السكان، مقابل ٢٧,٨ ٪ في عام ٢٠١٦.
وتعمل بعض القيادات الحكومية على مواجهة أزمة تكدس المقابر واستغلال الأطراف المختلفة لمعاناة المواطن، وذلك بتوفير مساحات دفن بأسعار متفاوتة من خلال بعض القرارات الاستثنائية، لكن لا توجد في الوقت نفسه مقابر مجانية تخصصها الدولة للبسطاء ومحدودي الدخل، بينما تعمل الجمعيات الأهلية وبعض المساجد على توفير قبور للعاجزين عن تحمّل النفقات، من خلال أموال الصدقات.
كما يساهم التكافل الاجتماعي في توفير النفقات الخاصة بالدفن والغسل، خاصة بالمناطق الشعبية حيث يقوم الأهالي عادة بجمع المال من أجل دفن وتكفين الميت، لكن التصاعد السريع للأسعار والأجور لازال يقف حائلًا أمام قدرات المواطن المحدودة.
وعلى الرغم من المجهودات المبذولة من جهة الحكومة والقطاعات الأهلية في مواجهة الأزمة، فإنه لا يمكن تجاوزها إلا في وجود تفعيل حقيقي للقانون من أجل تنظيم أسعار بيع وبناء المقابر وتحديد أجور العاملين بذلك القطاع، وحتى يتثنى ذلك فإن العوامل الاقتصادية الضاغطة لازالت تعصف بالمواطن، جاعلة للموت إرثًا ثقيلاً يتحمّله ابناء الطبقة الفقيرة.