بينما يأجج السلاح، المورد من الخارج، معارك السيطرة على العاصمة الليبية طرابلس، يتأرجح الطرابلسيون بين الصمود والاستسلام.
"الكذبة تجعلك تشرب مرّ الكأس مرّة واحدة وليس مرّتين". يقولها عبد الله وهو متجه نحو ساحة الشهداء سيرا على الأقدام بين الأعلام واللافتات. ثمّ يضيف وهو يشير إلى صورة معلّقة على الحائط للجنرال خليفة حفتر: "لقد نجحنا بالإطاحة بديكتاتور واحتفلنا بسقوطه، ولن نسمح بدخول ديكتاتور آخر إلى عاصمتنا".
وكان وجه حفتر مشطوب بعلامة × وقد كُتب في أسفل الصورة: أتركنا وشأننا.
يبلغ عبدالله 29 عاما من العمر. منذ صغره، عرف عبد الله هذه الساحة باسم الساحة الخضراء التي سمّيت على شعار ثورة أخرى قادها معمّر القذافي.
إنه يوم الجمعة، اليوم المعتاد للتظاهر والاحتفال، ومنذ بداية هجوم قوات الجنرال خليفة حفتر على المدينة، تحوّل إلى يوم احتجاجات شعبية في شوارع طرابلس للمطالبة بإنهاء الأعمال القتالية. يستذكر عبد الله المظاهرات الشعبية المناصرة للقذافي: في الثاني من آذار / مارس للاحتفال بإعلان الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى (جمهورية الشعب)؛ وفي الأول من أيلول / سبتمبر للاحتفال بذكرى ثورة الفاتح.
من هذه الساحة بالذات، في بدايات المظاهرات الاحتجاجية في 25 شباط / فبراير 2011، كان القذافي يناشد الجماهير أنّ : "الحياة بلا كرامة لا قيمة لها، والحياة بدون أعلام خضراء لا قيمة لها، فارقصوا وهلّلوا! لأنّ الذين لا يقفون معي سوف يموتون".
بعد بضعة أشهر، رقص الثوار في الساحة الخضراء، وقاموا بتمزيق الصور والملصقات الداعمة للرئيس لتحدي النظام وإعلان النصر والاستيلاء على الساحة التي شكلت على مدى عقود من الزمن، رمزاً لقوّة الكولونيل القذافي. ثمّ أعادوا تسميتها ساحة الشهداء.
وخلال الأزمة الراهنة، بينما تتساقط قذائف خليفة حفتر على المدينة كالمطر، عادت الساحة لتمتلئ مجددا بالرجال والأطفال من جهة والنساء من جهة أخرى. ترى أولادا يركضون حول الساحة يلوحون بعلم كبير ويهتفون: "لا لدكتاتور آخر! لا لحفتر مجرم الحرب!". تبرز أيضا لوحة إعلانية كبيرة على الواجهة البحرية وقد كتب عليها: "لا لعسكرة ليبيا". لكن ليبيا تعج بالسلاح حيث تنتشر بين 5 ملايين نسمة 20 مليون قطعة سلاح.
يجلس رجل مسن على كرسيه ينثر شِعراً للصحراء ولأبطال ليبيا. بدءا بعمر المختار الذي قاد المقاومة بوجه الاستعمار الإيطالي في عشرينيات القرن الماضي، ويستشهد بكلماته: "لن أغادر هذا المكان إلا بعد تحقيق أمر من اثنين في قمّة الأهمية: النصر أو الشهادة".
لم يحقق المختار النصر؛ بل ألقي القبض عليه وتمت محاكمته في قصر ليتوريو في بنغازي. حكم بالإعدام شنقا في الساحة أمام حشد من عشرين ألف شخص.
في هذه الأيام، يتم إحياء ذكرى قتلى آخرين في هذه الساحة. هم شهداء الهجوم الذي شنه حفتر. في شتّى الأنحاء، يمكن سماع هتافات التكبير والانتصار: "الله أكبر! النصر لنا!"
تغطي صور حفتر وحلفائه الجدران، إلى جانبه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان، كما أنّ هناك بعض الصور للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقد تمّ شطب وجوههم جميعا بعلامة حمراء.
تعكس هذه الصور والملصقات في ساحة الشهداء كيف أصبحت الحرب في ليبيا أقرب إلى الحرب بالوكالة من الحرب الأهلية. فكلا الطرفين يعتمد على الأسلحة من القوى الأجنبية لشن حملاتهم الهجومية أو الدفاعية. يناشد سكان طرابلس الحلفاء الغربيين لتزويدهم بالسلاح، تماما كما يفعل حلفاء حفتر الأقوياء الذين زوّدوه بدبابات T72 الحديثة وطائرات بدون طيار وصواريخ غراد إضافة إلى الطائرات والمروحيات.
من بين الصواريخ التي اطلقها حفتر على طرابلس صاروخ LJ-7 الصيني الصنع الذي يُطلق من الطائرة المسيرة الصينية وينغ لونغ التي باعتها الصين إلى كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر. وكان التحالف بقيادة السعودية قد استخدم صاروخ LJ-7 لاغتيال رئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين صالح علي الصمد في اليمن.
تبرز الإمارات العربية المتحدة بشكل خاص من بين هذه الدول. فقد زودت الإمارات الجنرال حفتر، وفقا للأمم المتحدة، بطائرات قتالية وحوالي 100 مركبة مدرعة، كما خصصت 200 مليون دولار لدعم عملياته العسكرية.
في المقابل لا يزال الناس في ساحة الشهداء يرددون أنّ "طرابلس لن تتحول إلى بنغازي أو درنة التي دُمّرت بالكامل جراء قصف قوات حفتر".
لكن جدران ساحة الشهداء باتت تعكس حالة مدينة طرابلس المرهقة التي تحوّلت إلى سوريا ثانية. تقول فتاة تحمل لافتة "الأمم المتحدة تدمر بلادنا" أنّه: "لم يعد أحد يثق بغسان سلامة هنا، لقد فقدت الأمم المتحدة كلّ مصداقيتها. يتحدثون عن مفاوضات منذ سنوات لكنهم شركاء في ما يحدث. يعلمون جيدا أنه لا يمكن التعامل مع مجرمين ومع ذلك يصرون على التفاوض مع حفتر. لكن صبرنا انتهى، كما انتهى وقت التفاوض".
تقترب امراة أخرى منقبة تدعى سلمى عمرها 25 عاما حاملة وردة بيد والبيان التالي في اليد الأخرى: "لا للحكومة العسكرية، نعم للحكومة المدنية. الليبيون إخوة وليسوا أعداء".
يعيش جزء من أسرة سلمى في الجزء الواقع تحت سيطرة حفتر من مدينة بنغازي منبع الثورة. تقول سلمى أن الجيش الوحيد الذي تعترف به هو جيش 17 فبراير.
بحسب سلمى: "الثورة لم تنته. ثمة الكثير من الأشخاص الذين ما زال بالإمكان الجلوس معهم على طاولة المفاوضات وابرام الاتفاقيات. الليبيون في الشرق ليسوا أعداءنا، هم إخوتنا وهم ليبيون مثلنا. نحن نرحب بهم إن أتوا بسلام. لكن التقدم العسكري الذي قام به حفتر قضى على الجهود المبذولة حتى الآن. لذلك، ما زلت أعتقد أنّه يوجد حل دبلوماسي فقط في حال تم استبعاده من المفاوضات".
بينما يغادر عبد الله ساحة الشهداء قبيل حلول المساء، يقوم أحدهم بتوزيع الحلوى والبريوش الطرابلسي الشهير، بينما يهتف شخص من بعيد: "يا حفتر، طرابلس لن تسمح لك بالدخول إليها".
يتحدث البعض الآخر بصوت خافت واصفين حالة الإرهاق التي أصابت المدينة. يقول عجوز يرتدي جلابية بيضاء: "الأمر لا يتعلّق بالتفاؤل أو التشاؤم بشأن نهاية الحرب، بل الاعتراف بوضوح أنّ الخيار يقع بين الميليشيات والدكتاتورية. إنّ بعض الذين أتوا للتظاهر في الساحة كانوا يشتكون منذ شهر فقط من أفعال الميليشيات، ويعربون عن أسفهم من انعدام الأمن وعن حنينهم لعهد القذافي الذي كان على الأقل يؤمن السكن والعمل والكهرباء للجميع على حد قولهم. لقد سئمنا، معظم الذين توافدوا إلى الساحة اليوم، كانوا مستعدين للترحيب بحفتر منذ بضعة أسابيع فقط".
ما يرهق المواطنين في طرابلس هي الطوابير في محطات البنزين وسيطرة الميليشيات على المصارف وانقطاع الكهرباء في عزّ الصيف.
تستشعر الإرهاق في طرابلس في تناقضاتها: أكبر احتياطي للنفط في القارة الافريقية وتاسع أكبر احتياطي في العالم، و48 مليار برميل من النفط الخام و1.5 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز الطبيعي. بكل ذلك، بإمكان ليبيا أن تبقى قوّة اقتصادية لمدّة قرن من الزمن.
اقتصاد ليبيا مبني على النفط الذي يشكل 95% من عائدات الحكومة و96% من قيمة الصادرات مع معدل دوران يبلغ 24 مليار دولار، ما يسمح للمواطن الليبي بملئ سيارته بالوقود مقابل 4 دولارات. لكن الناس يصطفون وينتظرون لساعات طويلة في محطات البنزين للتزود بالوقود. ذلك لأن الميليشيات تسيطر على كل شيئ، بما في ذلك مصافي النفط.
بلد غنيّ للغاية لكن من دون سيولة. ذلك أيضا نتيجة سيطرة الجماعات المسلحة على المصارف.
أراد حفتر استغلال هذا الإرهاق والبناء عليه للتوصل إلى اتفاق، لكنه أساء تقدير الدعم الذي يحظى به في المدينة، فتسرّع و زادت جرأته عن حدها. أراد دخول المدينة كبطل مكررا الخطاب نفسه الذي استخدمه في بنغازي: تنظيف العاصمة من الميليشيات والإسلاميين.
لن يقبله الطرابلسيون إن قام باجتياح المدينة. يقول عبد الله أنّ "حفتر قال بنفسه عام 2014 أن ليبيا غير مستعدة للديمقراطية. وهو الآن يطرح نفسه كبديل لها: دكتاتورية متنكرة بالتحرير من الإرهابيين".
على خط المواجهة
حلّ شهر أيار/مايو، وقد مرّت خمسة أسابيع منذ بدء العمليات العسكرية ضدّ حكومة الوفاق الوطني في طرابلس من قبل قوّات خليفة حفتر قائد القوات المسلحة الليبية. وصل القتال إلى القسم الجنوبي من المدينة حيث تقع مناطق "عين زارة وخلة الفرجان وصلاح الدين ومخيم اليرموك" ومنطقة المطار الدولي القديم الذي دمّر بالكامل عام 2014. قتل أكثر من أربعمائة شخص وجرح ألفان بينما نزح ستون ألف شخص.
تجري عمليات الكر والفر على عدد من خطوط التماس بشكل يومي. يشبه الأمر لعبة القط والفأر تحت نيران الهاون أكثر من أي شيء آخر.
سافرنا برفقة كتائب مصراتة للوصول إلى منطقة عين زارة التي تبعد 15 كلم من جنوب المدينة والتي تشكل نقطة حساسة في المعارك. يقود سيارتنا المصفحة شاب صغير من مصراتة وينقلنا في زواريب مدينة الأشباح. المحال التجارية ما زالت كما تركها أصحابها. لا تزال الخضار والفاكهة على الرصيف مغطاة بالردم والغبار. أما المساجد، فقد تحولت إلى مواقع للقناصين.
يشكل المرور بعين زارة مخاطرة كبيرة بسبب القصف ونيران القناصة. الأبنية والشوارع تشهد على القصف الحفتري المروع على المنطقة. يقول ياسين سلامة من مصراتة أنّهم "يملكون دبابات حديثة جدا وطائرات دون طيار وصواريخ غراد وطائرات ومروحيات. نحن مدربون جيدا. لكن الأمر أسهل على أرض المعركة. لكن عندما يبدأ العدو بالقصف، ليس هناك شيء يمكن فعله سوى الصلاة".
كونه من قدامى المقاتلين ومن ذوي الخبرة، يشرح ياسين أنّه لا يمكن للجنود التقدّم بشكل عشوائي: "علينا التفكير بالمدنيين. علينا إنقاذ الأرواح قبل كل شيء. أين هم حلفاؤنا؟ لماذا لا يرسلون طائرات بدون طيار عندما نعيش في الخوف المستمر من القنابل الإماراتية؟
عند مدخل عين زارة يوجد مصنع للورق مدمّر جراء تعرضه للقصف. كلما اقتربنا، يختلط صوت ألواح التنك المكدسة بصفير الهواء وأصوات الأعيرة النارية المتقطعة.
على الطريق، التقينا بسيارة محملة بصناديق وحقائب. توقّفت على جانب الطريق وتلتها سيارة إسعاف. أسامة عوشة هو آخر من يغادر الحيّ مع زوجته وولديه الصغيرين. يقول عوشة أنّ "تدمير عين زارة لا يقارن بتدمير بنغازي ودرنة. ما يسميه حفتر جيشا ما هو إلا مجموعة مرتزقة متوحشين من السودان وتشاد. الذين ينعتهم بالإرهابين لتبرير حربه ما هم سوى خصومه السياسيين. لا يفعل ذلك إلا الدكتاتور، يلعب على الكلمات ويعلن الحرب على الإرهاب لتبرير وحشيته".
قامت سيارة الإسعاف بنقل رجل نحيف للغاية واضح أنه لم يأكل منذ أيام عديدة. فلم يكن ممكنا إخلائه لأسابيع عدّة. الجنود يراقبون السماء باستمرار. فكل حرطقة تشكل خطرا تجلبه الطائرات المسيرة والقنابل المفاجئة.
يدعى أحد عناصر الكتيبة خالد منصور وهو من مصراتة. يرتدي خالد قناعا لتغطية وجهه لأن جزءا من عائلته لا يزال يعيش في بنغازي ولأنه حتى على خطوط التماس "من الأفضل عدم الوثوق بأحد"، على حدّ قوله. خلال الأسبوع الماضي، وصل رجلان يلوحان بعلم أبيض يقولان أنهما من جنود حفتر وأنهما يريدان الاستسلام والانشقاق عن الجيش. لكن تبيّن أنّ ذلك كان كمينا فتعرض الجنود لهجوم من جهتين من قبل قوات حفتر. نتيجة لذلك، خسر منصور ثلاثة من رجاله.
لا تفصل بين القناصين سوى مئات الأمتار: ليبيون من جهة وليبيون من جهة أخرى. وقد تمّت مترسة الخطوط الأمامية بشكل محكم، حيث تمّ استخدام أكياس الرمل والسواتر الترابية منعا لتقدّم مركبات العدوّ.
أما نحن، فموجودون في منزل على الخطوط الأمامية. فجأة، يهرع قائد الفرقة إلى الطابق الثالث حاملا بندقية كلاشنيكوف لمساندة أحد عناصره الذي بدأ بإطلاق أعيرة نارية من سلاحه الرشاش.
الكتيبة مؤلفة من مقاتلين مخضرمين قاتلوا عام 2016 في تحالف القوى العسكرية في مصراتة خلال عملية البنيان المرصوص وألحقت الهزيمة بتنظيم داعش في مدينة سرت، في حرب استمرت لستة أشهر وخلّفت 700 قتيل و3000 جريح.
يقول قائد الكتيبة: "لن أقبل أن يتم وصفي بالإرهابي من قبل دكتاتور مأمور لدكتاتوريين آخرين. إذا كان هناك أحد قد حارب الجهاديين في مصراتة، فهم هؤلاء الرجال".
كتلة التحالفات
لفهم المشهد في طرابلس بشكل صحيح، من الضروري ملاحظة من يقاتل ومن لا يقاتل بالقدر نفسه. فالقوى العسكرية في الميدان أغلبها من مصراتة وهم الأكثر عددا والأكثر خبرة. قوات مصراتة هي الأفضل تجهيزا وهي الموكلة حماية العاصمة وحماية نفسها أيضا. ذلك لأن حفتر يعتبر المدينة معقلا للاخوان المسلمين وهم يعلمون أنّه في حال سقوط طرابلس يعتزم حفتر التوجه مباشرة إلى مصراتة.
ثمّة أيضا كتائب من الزاوية والزوارة وأمازيغ وجنزور، لكن معظم ميليشيات مدينة طرابلس غير مشاركة في القتال، وفي مقدّمهم السلفيين التابعين لميليشيا الردع المؤلفة من 1500 عنصر وتسيطر على المطار والسجن في معيتيقة.
هؤلاء السلفيون الأقوياء مدعومون من الرياض، ويبدو أنّ مبعوثي حفتر قد تفاوضوا معهم في السنوات الأخيرة من خلال الجماعات السلفية المناصرة لحفتر في إقليم برقة شرق ليبيا. فهم باستطاعتهم قلب المقاييس اليوم.
يبلغ عطية من العمر عشرين عاما يرتدي سروالا قصيرا وسترة مموهة.يقول مبتسما: "هذه حربي. لست خائفا من الشهادة إن كان ذلك ضروريا لحماية العاصمة من الغزاة". يقاتل عطية في محيط المطار الدولي القديم، في أكثر المناطق المتنازع عليها وعلى أكثر الجبهات خطورة. فالمنطقة عبارة عن سهل مفتوح يتمّ التقدم فيه بالتوغل بين المزارع.
تتحرك المدرعات جنوبا في جولة استطلاعية. ويتم إرسال المواقع عبر الجهاز: "المنطقة 17، ها نحن. دبابة، دبابة". تمّ رصد دبابة للعدو. يجيب الجانب الآخر: "مستعدون للموت إذا لزم الأمر، لن نتحرك من موقعنا حتى إشعار آخر. سوف نريكم من نحن. الله أكبر!"
أن تكون على الجبهة الأمامية في طرابلس اليوم يعني التحرك بشكل عشوائي. فالجنود الذين يسيطرون على طريق المطار يحرزون تقدمهم كلّ متر بمتره تحت نيران الهاون لأن قوات حفتر تحاصر الطريق من اليمين واليسار. فجأة، تصيب قنبلة صاروخية مركبتنا المدرعة ويتبعها وابل من الرصاص. رصاص يمكن سماع صفيره يخرق جدار الأعيرة النارية الدفاعية بين الحين والآخر.
ومن ثمّ توقف إطلاق النار.
يقول عطية: "إنها الحرب الرابعة منذ ثماني سنوات: كان هناك الثورة والحرب الأهلية ثمّ حرب سبتمبر ثمّ حرب الميليشيات في طرابلس والآن حرب خليفة حفتر. أعداء الأمس باتوا حلفاء اليوم. كما يمكن لحلفاء اليوم أن يتحولوا إلى أعداء الغد".
إنّ الوتيرة السريعة للاشتباكات والتقلب المستمر في صفوف التحالفات قد أرهق معنويات المقاتلين أكثر من أي شيء آخر. فهم يعلمون أنهم حتى لو تمكنوا من هزيمة الجنرال خليفة حفتر في برقة، سوف تأتي الأطراف التي قاتلت بشراسة لتقدم فاتورة الحرب كما في المرات السابقة، ولتطالب بمناصب سياسية وقوانين مفصلة على قياسها وأموال ومصافي ونفط.
في حال تحقيق النصر، من المستبعد أنّ يقوم مقاتلو مصراتة بمغادرة طرابلس بعد أن بذلوا دما للدفاع عنها. يعلق عطية على الموضوع قائلا: "الانتهازية قتلت روح الثورة. مات الشباب من أجل الحرية بينما يسرق الكبار الغنائم".
فقد عطية والده المتمرد "شهيد عام 2011" خلال الثورة. يقول ذلك ويشيح بنظره إلى الأبنية المدمرة من خلال شباك المدرعة. لكن إيمانه بروح ثورة 17 فبراير لم ولن يتوقف.
يقول عطية أن قتل العدو ليس سهلا، لأنهم ليبيون مثله: "لكنني إن لم أطلق النار أولا، أموت أولا". يخرج من المدرعة صارخا: "حرية! حرية! لن ينتهي إيماني بالحرية".
لكن الحرية التي يؤمن بها عطية باتت هشة للغاية. الحرية في طرابلس مهددة بالاستسلام للتعب والإرهاق وفقدان المعنويات، ما يفتح الطريق لدكتاتور جديد. في الواقع، هذا التعب والإرهاق الذي يتخمر في نفوس سكان طرابلس وحراسها هو بالتحديد ما يراهن عليه حفتر ويستمد منه ثقته لاجتياح العاصمة.