الزمن اللازم للقراءة: 5 دقيقة
عن رحيل الباحثة كاتيا برنكمان

"إفتح عينيك وأذنيك"

مقالة
الشريك المؤسس في مؤسسة كانديد، كاتيا برنكمان، عاشت بين العام ١٩٦٩و ٢٠١٧
الشريك المؤسس في مؤسسة كانديد، كاتيا برنكمان، عاشت بين العام ١٩٦٩و ٢٠١٧ صورة خاصة

كونها باحثة في اللغة والأدب العربي، قامت كاتيا برنكمان باستكشاف تاريخ الشرق الأوسط عبر عصوره حتى حاضره، وكانت تتمنى أن تكتب تاريخ آخر لسوريا. إنه ليغمرنا الأسى والحزن على فراق صديقتنا وزميلتنا وشريكتنا.

كانت كاتيا برنكمان، في مقتبل عمرها، تطمح لأن تصبح عالمة آثار. وكانت تسعى لتقارب المشرق الحديث انطلاقاً من العصور القديمة حتى يومنا هذا – تماماً كما كان يفعل السلف في الماضي. حيث قام المستشرقون والمستعربون الأوروبيون، في بدايات ظهور هذا المجال الجديد، بدراسة الإنجيل ثم انطلقوا في البحث عن تراث سلومي وسليمان. وبمحض الصدفة عثروا على مخطوطات من العصور الوسطى وانبهروا بلغتها العربية وفي مرحلة معينة استقر بهم الأمر في العصر الحديث.

 

لكن تسلسل الأحداث تلك جعلت الباحثين يخوضون في شقاء المفارقة: فبقدر ما كان الماضي السحيق للمشرق عظيم ورهيب وفاتن، إلا أن حاضره مزعج وعاصف ومتهتك. ووصل الأمر ببعض الأساتذة الجامعيين المستشرقين، حتى نهاية القرن العشرين، إلى أن يثنوا طلابهم عن السفر إلى العالم العربي. وكانوا يدّعون بأن من يذهب إلى الشرق سيتعلم اللهجة الشامية من الباعة الجوّالين المنتشرين في الشوارع الدمشقية، ويخسر قواعد اللغة العربية الفصحى التي اجتهد كثيراً لتعلمها.

 

أمّا الأجيال اللاحقة من الباحثين والمستشرقين أرادوا تغيير الواقع الذي كان سائداً عند سلفهم: الاطلاع على العالم العربي الحديث والمعاصر ودراسة بحوث وكتابات الفيلسوف والمؤرخ ميشيل فوكو بدلا من الاستعانة بالإنجيل والقرآن وملحمة جلجامش. فما فائدة التعرف على شريعة حمورابي لمن يريد دراسة نظام البعث السوري أو فهم الحياة اليومية في حلب؟

 

وعلى نقيض هذا وذاك، فإن كاتيا برنكمان درست مختلف الحقبات التاريخية. ومن يلقي نظرة على المراجع والكتب المصطفّة على رفوف مكتبتها، يلاحظ أنها كانت مهتمّة بكل العصور بشكل متساوٍ وبكل الحُقب التاريخية المختلفة: المشرق القديم،أواخر العصر البيزنطي القديم، تاريخ ما قبل الإسلام أو ما يسمى بالـ"جاهلية" وكذلك "العصر الذهبي" وهو القرن الذي سبق الحملة المغولية، مرحلة الإستعمار، العصر الحديث والمعاصر.

 

ولم يكن اهتمامها مقتصراً على مجال محدد، فقد شمل: علم الآثار، التاريخ، علم التأريخ، علم اللاهوت، الشعر والنثر. فمنن الممكن القول: إن كاتيا كانت تتمتع بـ"المرونة" الفكرية، التي وصفها الناقد والمفكر الألماني فريدريش شليغل قائلاً: "هي التي تمكننا من التعرف على خصائص الشعوب وتنقلنا إلى عصور أخرى، وتجعلنا نشعر وكأننا جزء من كيانها". كما أن عملها لعدة سنوات كمرشدة سياحية مع مؤسسة Studiosus التي تنظم الرحلات الأكاديمية والبحثية ساعدها على تنمية هذه المرونة.

 

في عام 1989 بدأت الدراسة في جامعة غوتنغين. في بادئ الأمر أرادت دراسة السنسكريتية ولكن نصحها بعض المختصّين بأن تكرس وقتها لدراسة الفارسية. وفي حال أرادت أن تدخل هذا المجال بجدية، فلابد لها من تعلّم العربية ايضاً.

 

انتقلت كاتيا برنكمان في عام إستعادة الوحدة الألمانية إلى برلين ودرست اللغة والأدب العربي في جامعة "برلين الحرة" (Freie Universität "FU") . كانت رسالتها لدرجة الماجستير تدور حول شعر عنترة بن شداد. ورغم أن البعض يرى أن هذا الموضوع ليس غنياً أكاديمياً، ولكن كاتيا عرفت قيمة هذا الشاعر العربي الجاهلي وما يمثله بالنسبة للعرب حتى يومنا هذا: إنه البطل الأسطوري العربي الذي يشابه سيغفريد قاتل التنين، إلا أنه أكثر ذكاءً وثقافة من سيغفريد، إنه فارس مغوار، ومحارب شرس وهو ايضاً عاشق متيّم وشاعر فصيح. وحتى هذا اليوم يحفظ ويردد الشباب في سوريا أشعاره غيباً وعن ظهر قلب.

 

زارت كاتيا برنكمان لاحقاً وبشكل منتظم العالم العربي وكان في قلبها مكان خاص لعُمان وسوريا. تعلمت اللغة العربية في مدن عربية مختلفة بما فيها القاهرة. وفي عام 2005 تزوجت من الخبير في القانون الدستوري، السوري الأصل، ناصيف نعيم، الذي تعرفت من خلاله على شبكة zenith. وفي عام 2010 ولدت ابنتهما الوحيدة.

 

قامت كاتيا برنكمان، في إطار مشروع بحثي في جامعة برلين الحرة، بكتابة أطروحة حول الفقيه الدمشقي "ابن القيّم الجوزية"، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. ويعتبر هذا العمل البحثي، رغم قِدم ابن القيّم، بحث تاريخي معاصر، حيث يعد هذا الفقيه مرجعاً اساسياً لكثير من السلفيين والمتديّنين المحافظين في أيامنا هذه.

 

قامت كاتيا بتحليل بلاغته في تقديم الحجج وناقشت أطروحتها عام 2016 التي منحت عليها درجة التفوق بامتياز من قبل  لجنة الإمتحان، في كلية اللغة والأدب العربي بجامعة برلين الحرة، التي كانت مكونة من ريناته ياكوبي وبرجيت كرافيتز.

 

دليل سياحي لبلد لن يعود كما كان يوماً.

 

من عمل في يوم من الأيام كمرشد سياحي لمجموعة ألمانية خلال رحلة معرفية عبر بلد مثل سوريا، سيعرف ما معنى التفكير بكل شيء وعدم ترك أي شيء يغيب عن ناظريه.

 

بفضل كفاءتها كمستعربة وشغفها اللامحدود بالعالم العربي وقدرتها النوعية على الإدارة، كانت كاتيا الإضافة الهامة التي كان يتمناها الفريق المؤسس لمؤسسة Candid Foundation gGmbH التي أنشأها بعض محرري شبكة zenith وخبراء الشرق الأوسط في صيف عام 2014: والتي هي مؤسسة أبحاث مستقلة غير ربحية تنطلق منها مشاريع تطويرية ابتكارية مع مؤسسات في مجتمعات جنوب المتوسط. وبدورها كإحدى الأعضاء المؤسِسين، طورت كاتيا برنكمان وأشرفت على تنفيذ مشاريع مؤسسة Candid Foundation gGmbH وكذلك ساهمت في المجموعة الاستشارات مجلس زينيت Zenith Council المنبثق عن شبكة زينيت Zenith Network.

 

"افتح عيناك وأذنيك" هذا ما نصحت به كاتيا برنكمان في أحد كتبها، الذي يمكن اعتباره اليوم على أنه وثيقة تاريخية بالرغم من أنه لم يمر على نشره سوى بضع سنوات منذ عام 2011. إنه وبجدارة الدليل السياحي الأحدث باللغة الألمانية حول سوريا – ذلك البلد الذي أحبته كاتيا برنكمان والذي لم يعد قائما كما كان، يوم وصفته.

 

نُشر الدليل السياحي في سنة شهدت ازذهاراً بالسياحة الثقافية في سوريا بشكل كبير ولكن الحرب الوحشية، التي مر عليها اليوم 6 سنوات، دمرت كل الآمال. لقد ألقت الكاتبة الكثير من المحاضرات حول التراث الحضاري السوري الذي دمرته أو شوهته الحرب – خصوصاً بسبب سرقة الآثار والقصف – ولاحقاً بسبب التدمير الهمجي من قبل عصابات ما يسمى بالدولة الإسلامية. أماكن حفظت كاتيا برنكمان أدقّ تفاصيلها وكانت تتمنى دائماً العودة إليها يوماً برفقة عائلتها.

 

إن الملاحظة التي وردت في مقدمة كتابها ستبقى حية لأجيال طويلة، بالرغم من أنها ستُقرأ مستقبلاً بطريقة أخرى: إن سوريا <<مجال ينبغي الاطلاع عليه لرؤية تعايش المجتمعات المتوازية دينيا وعرقيا فيه ومراقبة التعاطي مع الهجرة منه وإليه، وكيفية التعامل مع التطرف الديني والسياسي>>. ومن الظلم أن يكون هذا البلد <<من البلدان غير المعروفة>> في حوض المتوسط.

 

في مقابلة صحفية مع مجلة zenith أُجريت معها عام 2013 قالت بأنها ترغب في المستقبل بأن تعيد كتابة هذا الكتاب. ولكن هذه المرة كقصة تاريخ نجاح لهذا البلد.

 

في ليلة الجمعة الموافق 1 سبتمبر/أيلول 2017  توفيت صديقتنا العزيزة وشريكتنا وزميلتنا كاتيا فجأة أثر سكتة قلبية،بعمر الـ48 ربيعاً.

عن: 
دانيال غيرلاخ