رغم المأساة التي يعيشها الشعب السوري اليوم في جميع مناطق سوريا، وبالأخص المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، إلا ان هناك من يعمل على خلق فسحة أمل.
في كل الحروب التي مرت على تاريخ العالم، أظهرت البشرية أقبح صورها من خلال القتل والدمار الذين صنعهما الأنسان؛ ولكن بالرغم من كآبة المنظر وظلام المشهد، لا يمكن ان ننكر ان هذه الحروب أخرجت شيء من أجمل ما يمكن ان يعتبر "عمل إنساني"، تجلت بمبادرات إنسانية تحولت إلى مثال يدلّ به إلى "كيف تصبح انسان". كذلك الحال بالنسبة للحرب في سوريا، ففي خضم حرب شعواء، ظهرت مجموعات من الشباب الرافض للنزاع المسلح وبدأت العمل على كل ما من شأنه تخفيف العبء عن الشعب الذي لاحول ولا قوة له في تلك الغوغائية. فبدوءا العمل على انشاء منظمات المجتمع المدني.
وجود هذه المنظمات كان في سوريا، قبل عام ٢٠١١، شبه معدوم ما عدا المنظمات التي تعمل بغطاء من حزب البعث الحاكم او من الأمانة السورية للتنمية، التي تتبع مباشرة لمكتب "السيدة الأولى". حيث أن أي مبادرة في مجال تنمية المجتمع المدني، سواء كانت مدعومة من قبل منظمات عالمية او ممولين محليين، كانت تواجه من قبل أجهزة الأمن التابعة للنظام على انها مشروع مخابراتي يقوم به عملاء يتبعون لدول وأجهزة مخابرات غربية. وطبعاً كانت التهمة تلك كفيلة بوضع المتهم في المعتقلات لأجلٍ غير مسمى.
في بدايات "الثورة السورية" التي انطلقت شرارتها في شهر آذار/مارس من العام ٢٠١١ بدأت مجموعات شابة في شتى المحافظات والمدن السورية بأنشاء مجموعات تُعنى بالعمل المدني، وكان يطلق على هذه المجموعات اسم "تنسيقيات الثورة". هذه المجموعات الصغيرة كان عملها يقتصر على تشارك المعلومات وتنظيم المظاهرات والاحتجاجات، وفي بعض الأحيان تقديم خدمات طبية محدودة للمصابين في المظاهرات، حيث كانت معظم الحالات التي تصل إلى المستشفيات معرضة للاعتقال.
بدأ عمل هذه "التنسيقيات" بالتوسع وخاصة في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري، وتحولت من تنسيقيات إلى منظمات مجتمع مدني، تقوم بتنفيذ مشاريع متعلقة بالتنمية والتعليم وتقدم بعض الخدمات الطبية والمجتمعية. ومن أكثر المناطق التي شهدت توسع لهذه المنظمات هي مناطق الشمال السوري وتحديداً محافظتي ادلب وحلب (قبل ان تحاصرها قوات النظام بمساعدة القوات الرديفة) بحكم وقوعها على الحدود الشمالية مع تركيا. فكان هنالك مبادرات عديدة تهتم بتقديم الدعم النفسي والتعليم للأطفال، كمؤسسة "رعاية الطفل" التي تدير ١٦ مدرسة في الريف الجنوبي لمحافظة إدلب. والتي تهدف ايضاً إلى خلق فرص عمل لعدد من الشباب بهدف ابعادهم عن حمل السلاح.
ولكن هذا التوسع لم يكن خالي من المخاطر، حيث ان اهداف ومشاريع هذه المنظمات لا تخدم مصالح النظام السوري، ولذلك أصبحت هدف لسلاح الجو والمدفعية، وكذلك الجماعات الإسلامية الراديكالية كانت ترى فيها ما يهدد وجودها وايديولوجياتها الجهادية، وخصوصاً إذا كانت المشاريع والمبادرات ترمي إلى التعليم وتعزيز فكر بناء السلام، حيث تعتبر، هذه الجماعات، الترويج للسلام هو دعوة ضد الجهاد الذي يرتكز وجودهم عليه، "لا يريدون الناس ان تعمل او الأطفال ان تتعلم، لأن ذلك يبعدهم عن السلاح والفكر المتشدد" يقول حسن الأحمد، ناشط مجتمع مدني في ريف ادلب الجنوبي.
في الفترة التي تلت طرد تنظيم الدولة الإرهابي "داعش" من محافظة ادلب، بدأت منظمات المجتمع المدني بالنمو، وخاصة في المناطق التي تقع تحت سيطرة "الجيش السوري الحر" الذي فضّل تسليم المناطق المدنية لمجالس إدارة محلية مدنية من أهالي تلك المناطق، والتنسيق مع تلك المجالس في مجالات الأمن والأمان بينما بقي بعيداً عن فرض ادارته فيما يتعلق بالعمل المدني والخدمي. ولكن المناطق الأوسع التي بقيت تحت سيطرة مجموعات إسلامية معتدلة، كان وجود العمل المدني خجولاً بسبب تدخل هذه القوى بإدارة هذه المناطق. وطبعاً بسبب ملاحقة "جبهة النصرة" للناشطين في هذا الميدان، حيث أصبح قياديي هذا التنظيم يستغلون القوة التي يتمتعون بها لتصفية حسابات شخصية ضد الناشطين الذين يعملون في هذا المجال؛ حسن الأحمد، أحد الناشطين الذين قام عناصر من النصرة بملاحقته واستهداف المشاريع التي ينفذها، يقول "هناك اشخاص (في الجبهة) يكرهونني شخصياً ويعملون على استهدافي من خلال عملي، وهذا ينطبق على الكثير من ناشطين المجتمع المدني".
وعلى ما يبدو ان هذه المبادرات ليست فقط مستهدفة او محاربة من قبل الجماعات الإسلامية الراديكالية، بل ان قوات مدعومة من أطراف دولية لا تحبذ وجودها ايضاً. قد حدث ان قام بعض الناشطين بالعمل على إقامة مبادرة إنسانية في شرق سوريا بالقرب من محافظة دير الزور، لإقامة مخيمات تؤوي النازحين من مناطق سيطرة داعش، ولكن القوات الكردية التي تسيطر على المنطقة منعت إقامة تلك المبادرة لأسباب يدعون بأنها امنية، بحسب ما ذكر الشيخ أمير دندل الذي قدم مبادرة المخيمات في تلك المنطقة.
ومن الصعوبات التي يواجهها عمل هذه المنظمات هو فقدان الثقة الشعبية بهم؛ في حالة المنظمات التي تعني بجمع المعلمومات وإعداد الاحصائيات "عندما لا تقدم شيء ملموس للناس، غالباً لا يتعاونون معك. اما بالنسبة للفصائل المسلحة فنحن دائماً متهمين بالقيام بأعمال استخباراتية" يقول احد العاملين بهذا المجال؛ فضّل عدم ذكر اسمه؛ وفي الشق الآخر من عمل المنظمات الأنسانية المهتم بالجانب الإغاثي والتنموي، فهناك سلسلة طويلة من الموظفين والوسطاء بين الممولين والمنفذين، وغالباً تصرف نسب كبيرة من مبالغ التمويل على رواتب هؤلاء الموظفين، معظمهم يعمل في تركيا، وهذا يعني ان تصل كمية ضئيلة من هذه الأموال إلى المستهدفين. كما ان الكثير من تلك المشاريع لا تدرس جيداً من قبل المانحين الذين لا يعرفون الوضع على الأرض جيداً، فيصبح توزيع التمويل غير عادل والمنفذين ليس لديهم الكفاءة وبالتالي المشروع غير مجدي.
ومن الطبيعي ان يؤثر العمل السياسي والعسكري على وضع عمل المنظمات العاملة على الأرض، حيث توصلت القوى الإقليمية المنخرطة في الحرب السورية بشكل مباشر إلى اتفاق جديد، واشتهر باسم "المناطق الأربعة" او مناطق تخفيف التصعيد. هذا الاتفاق يشابه لحد كبير مفهوم المناطق الأمنة، ولكن القوات التي ستقوم بدور المراقب وحامي تلك المناطق هي نفسها التي تقاتل الآن على الأرض السورية؛ سواء لصالح النظام او ضده.
ينص أحد بنود هذا الاتفاق على ان تشهد تلك المناطق وقف لإطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية بإشراف قوات الدول الضامنة للاتفاق "روسيا، إيران وتركيا". فإذا تم هذا الاتفاق كما صرح عنه، فمن شأنه ان يعطي مجال لازدهار العمل المدني في تلك المناطق "إذا ما تم تطبيق القرار كما نصَّ عليه، فسيصبح عملنا سهلاً. حيث ينص القرار على اجلاء الوجود العسكري والمقرات الأمنية التابعة للفصائل المسلحة" يقول الأحمد.
كما انه في هذا الحين يتم التحضير لعمل عسكري واسع ضد تنظيم داعش في دير الزور والرقة، مما سينجم عنه موجة ضخمة من النزوح من مدن وبلدات هاتين المحافظتين، وعدم وجود منظمات قادرة على مساعدة النازحين وتحديداً في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي يديرها بشكل كبير قوات حماية الشعب الكردية، والتي يتخوف معظم النازحين من التعامل معا بسبب تعاطيها العنصري مع النازحين العرب.
إن المناطق التي هي بأمسّ الحاجة لمشاريع إنسانية بشقيها التنموي والإغاثي تقع تحت سيطرة قوات تعرقل وجودها، مثل جبهة النصرة، التي يعتقد انها تخضع لتأثير تركي، وقوات "قسد" المدعومة أمريكياً. هذه الدول والقوى الداعمة يجب ان تقوم بواجبها الإنساني والضغط على هذه الفصائل العسكرية في الداخل السوري لدعم وحماية المنظمات تلك.