"السياسات والتشريعات الرائدة المعاصرة، قادرة على دعم الشركات التكنولوجية الناشئة لتمكين الاقتصاد الرقمي وخلق فرص عمل جديدة في الشرق الأوسط" - فادي غندور.
لو تأمّلتَ العالم العربي جيّداً، لأدركتَ أنه على مشارف حقبة جديدة من الابتكار والريادة، يقودها جيل الشباب معززاً بامكانات تكنولوجية تمهد الطريق لثورة رقمية في المنطقة. فقد اعتمد هذا الجيل من الرواد التكنولوجيا كأساس للتواصل، وابتكار الحلول، وإعادة صياغة صناعات ونماذج أعمال بالكامل. وستؤدي هذه التغيرات الجذرية الى بناء اقتصاد رقمي مزدهر في الشرق الأوسط وتأسيس بيئة ريادية خلاقة من شأنها الحد من ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب، ودعم التنوع الاقتصادي، وإيجاد مصادر جديدة للدخل.
وعلى الرغم من الدور المحوري والامكانات الواعدة لهذه الشّركات الناشئة التي تعتمد التكنولوجيا أساساً لنموذج أعمالها، إلّا أنها تواجه عراقيل عدة في ظل منظومة اقتصادية وتشريعية متأخرة وغير مواتية لدعم الأعمال الريادية. وتأتي السّياسات المتحجّرة، والبيروقراطية، والتّعقيدات الإدارية، لتصعّد من التحديات التي تقف حائلاً أمام بناء مشاريع تكنولوجية خلاقة ومربحة.
تضع الحكومات هذه الأنظمة التشريعية لضبط الأعمال وتقليل المخاطر وحماية الأسواق، لكن مما لا شك فيه، أن المجازفة، وما يترتب عليها من مخاطر، هي جزء لا يتجزأ من عملية الابتكار والابداع لخلق نماذج أعمال جديدة، وإذا أرادت حكومات المنطقة النهوض بأنشطة ريادة الأعمال وتنمية الاقتصاد، فعلى أصحاب القرار التحرك العاجل لوضع سياسات إصلاحية من شأنها أن تحقق التوافق بين وجود التشريعات وتوفير بيئة مشجعة لاستقطاب المبدعين ودعم أعمالهم. وإذا سألنا احد رواد الأعمال الشباب عن السياسات والتشريعات التي يتطلبها قطاع الأعمال، وخاصة التكنولوجي، سيدلّنا على نماذج تشريعية سهلة التنفيذ، وغير مكلفة، وواضحة المعالم، وذلك بالسير على خطى اقتصادات دول نجحت في النهوض بنشاطات أعمالها ودعم روادها من خلال وضع سياسات وتشريعات مستنيرة ومرنة.
ملكية المستثمر الأجنبي.
المشكلة:
من العوائق الأساسية لنمو وتوسع شركات التكنولوجيا الناشئة في الشرق الأوسط هي قوانين تحديد الملكية أمام الاستثمار الأجنبي، مما يؤدي لا إلى تعطيل تمويل المشاريع وعرقلة الاستثمار المباشر لرؤوس الأموال الأجنبيّة فحسب، إنما يؤدي أيضاً إلى تحديد نمو الشركات وقدرتها على التوسع وإنشاء فروع في أسواق الشرق الأوسط المختلفة. هذه التّعقيدات تعطّل النمو الاقتصادي وتقلّص من قدرات المستثمرين الأجانب في ضخّ أموالهم بالمنطقة.
الحل:
هنالك مجموعة من دول المنطقة بدأت باتّخاذ خطوات إيجابية لتعزيز البيئة الاستثمارية، فالمُشرّعون في المملكة العربيّة السعوديّة، ودولة الامارات العربية المتّحدة، والأردن، ومصر، هم بصدد وضع قوانين جديدة من شأنها تسهيل ملكية واستثمار الأجانب في بعض القطاعات. لكن على المشرعين تقديم إصلاحات شاملة تضم جميع قطاعات الأعمال بما فيها التكنولوجيا.
في مملكة البحرين، على سبيل المثال، أصدرت الحكومة قوانين تسمح بالملكية الكاملة للأجانب للشركات وفروعها دون كفيل محلي، لاسيما في قطاع الاتصالات والمعلومات بالإضافة إلى قطاعات أخرى. إن لمثل هذه الخطوات التشريعيّة أثر إيجابي كبير على نمو الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا وتوسع نطاق أعمالها، لأن أهمية الاستثمار الأجبني لا تقتصر على توفير رأس المال فحسب، بل تمتد إلى الاستفادة من خبرات المستثمرين ومعرفتهم في الأسواق العالمية.
غياب رأس المال
المشكلة:
تواجه الشركات المتوسطة والصغيرة والصغرى صعوبات عدة لإيجاد سبل لتمويل أعمالهم والحصول على قروض للتوسع بمشاريعهم. حيث أقرت مؤسسة "التّمويل الدّولية": إنّ حوالي نسبة 63% من هذه الشركات ليس لديها أي سبل للحصول على التمويل مما يحد من إمكانية توسع نشاطاتها.
هذا إلى جانب أنّ قوانين الإفلاس المطبقة حالياً في معظم دول المنطقة غير ملائمة لطبيعة أعمال الشركات الناشئة، فهي تجعل من الفشل ثمناً باهظاً جداً وتروج ثقافة أعمال تقوم على تجنب المجازفة بدلاً من التجربة والجرأة والعمل. فغياب النصوص التشريعية التي تنظم الإفلاس وتساعد على إعادة هيكلة الديون تحول دون تمكن الشركات من النمو، كما تجعل البنوك أقل إقبالاً على إقراض هذه الفئة من الشركات.
الحل:
بدأت عدة دول في المنطقة كالكويت، ولبنان، وقطر، ومؤخّراً الإمارات العربيّة المتّحدة ببناء أطر تشريعية جديدة لتنظيم إفلاس الشركات وإعادة هيكلة القروض، ممّا يضمن تقليصَ نسبة الدُّيون، وتوفير سبل للاقتراض، وتحفيز مناخ الاستثمار في الشركات الصغيرة والمتوسطة، وإعطائها فرصاً أكثر للنمو والنجاح.
قوانين العمل
المشكلة:
تقتضي طبيعة أعمال الشركات التّكنولوجية الناّشئة تجاوباً سريعاً لتلبية متطبات الزبائن والأسواق، والتي تتضمن التوسع والحاجة إلى زيادة أعداد الموظفين بسرعة وفاعلية، لكن القوانين الناظمة للعمل بشكلها الحالي - ومن ضمنها الإجراءات المُعقّدة لاصدار تصاريح العمل، بالإضافة إلى قوانين التوطين التي توجب وجود نسبة معينة من اليد العاملة المحلية-هذه القوانين تجعل التوسع السريع والفاعل لعمليات الشركات وتسهيل عبور اليد العاملة من سوق إلى آخر عمليّةً شبه مستحيلة.
ومن جانب آخر تلجأ الكثير من شركات التكنولوجيا الناشئة إلى منح خيار امتلاك أسهم في الشركة لفريق العمل الأكثر أهمية من المبدعين والمؤثرين في نجاح الشركة، كجزء من منافع الراتب المقدمة لهم، وذلك لاستقطاب أفضل الكفاءات والحفاظ على ولائهم للعمل. لكن قوانين الشركات في بلدان مثل الأردن، ومصر لا تسمح للشركات المدرجة في البورصة بتقديم خيارات الأسهم لموظفيها، مما له تأثير سلبي على الولاء للشركة، والإنتاجية، والالتزام على مدى الطويل.
الحل:
إنشاء قوانين خاصة بالعمل تتّسم بالمرونة لتمكين الشركات الناشئة من مواكبة احتياجات السوق بفاعلية عالية، والقدرة على التوظيف السريع لزيادة الانتاجية والانتشار، وتوفير بيئة تشريعية تساعد الشركات الناشئة في استقطاب الكفاءات المبدعة بتمكين الشّركات من منح أسهمٍ للعاملين بها .
أسواق مقسمة
المشكلة:
تعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من المناطق الواعدة في العالم لإنشاء أسواق مُشتركة للاستهلاك والتّجارة، فهي تضم أكثر من 350 مليون نسمة، يقل أعمار 60% منهم عن 25 سنة. وبالرغم من ذلك، لا توجد سوق مشتركة تضمّ كل هذه البلدان، فالأسواق مقسمة بين عشرين دولة، لكل منها قوانين وتشريعات وأنظمة تختلف عن الأخرى.
هذا يعني على الصّعيد العملي، أن شركة تكنولوجية ناشئة في الأردن، على سبيل المثال، لا يسعها التواجد وتكبير أنشطتها التجارية إلاّ في السّوق المحلّية داخل الأردن، أي بنسبة انتشار ضعيفة لا تتجاوز 2.1% من مجمل اقتصادات دول المنطقة.
الحل:
حرية تنقل البضائع، والأشخاص، والشركات ستخلق بيئة أعمال محفزة للشركات الناشئة، وتيسّر الدخول لأسواق جديدة، وتوفر فرص أكبر للنمو والتوسع، والاستفادة من الخبرات والقدرات الموجودة في المنطقة ككل، مما يساعد على تحسين القدرة التنافسية والإنتاجية لدى الشركات.
أما بالبنسبة للاقتصاد في المنطقة، فإن لتحرير التجارة أثر تمتد فوائده من زيادة النشاط التجاري بين أسواق المنطقة ودفع عجلة النمو الاقتصادي، إلى تبادل الخبرات وترسيخ التعاون بين البلدان وتحسين فاعلية الأعمال للمنافسة في سوق أكبر وأكثر انفتاحاً.
مُواكبة الابتكار
المشكلة:
توفّر التطوّرات التكنولوجية والإبداعات الرقمية حلولاً مبتكرة وناجعة للعديد من المشاكل، وتخلق مصادر دخل جديدة للشركات والأفراد، وتعمل على إعادة تعريف صناعات وتغيير نماذج أعمال بالكامل.
فإذا أخذنا التكنولوجية المالية أو الـ(Fin-Tech) كمثالا، والتي تقوم بتغير القطاع المالي على نطاق عالمي، تعمل حلولها على تعميم الخدمات المالية وإتاحتها لعدد أكبر من الأفراد والشركات ممن لم يكن لديهم حساب بنكي أو سبل للاقتراض والتمويل. حيث توفر حلول مثل تمويل "الند للند" فرصاً جديدة للأفراد والشركات الناشئة للتوسع وزيادة رأس المال، كما ستقوم الحلول المبنية على العملة المشفرة على غرار بيت كوين (Bitcoin) بتشكيل نظم أعمال مالية بديلة وقد تلغي وساطة البنوك، كما أنها ستعمل على زيادة كفاءة الآليات المعمول بها في النظام المالي الحالي.
وعلى الرغم من ذلك، فإن واضعي اللوائح التنظيمية والتشريعات في أكثر بلدان المنطقة لم يقوموا بعد بمواكبة هذه التغيرات المضطردة وتصميم أطر تشريعية متطورة لاحتواء هذا التحول التكنولوجي ودعمه.
الحل:
تفرض التكنولوجيا المالية مشهد جديداً للفرص والمخاطر معاً. فبينما يتوجب على الحكومات والمشرعين التكيف السريع مع هذه الفئة الجديدة من الشركات بتطوير استراتيجيات جديدة تمكّنها من الحد من المخاطر التي قد تصاحب نظم الأعمال الجديدة، وحماية المستهلكين والخصوصية، يقع أيضاً على عاتق الحكومات مهمة الموازنة بين التشريعات ودعم الابتكار والتجربة. فعلى البنوك المركزية تصميم أطر تشريعية مرنة تحفز على تبني الحلول الجديدة واختبارها وتحسين أدائها، وتقديم برامج تُشجّع الاستثمار في المراحل المبكرة لمشاريع التكنولوجيا المالية الناشئة.
من هذا المنطلق أطلق المركز المالي الدولي في أبوظبي، مبادرة «المختبر التنظيمي» لتصميم إطار عمل تنظيمي وتشريعي متخصص وموجه لشركات التكنولوجيا المالية. يتييح المختبر للمشاركين تطوير واختبار منتجاتهم وخدماتهم المبنية على التكنولوجيا المالية لمدة عامين ضمن بيئة آمنة بضوابط وتشريعات محددة، ودون التعرض لأي أعباء تنظيمية أخرى، مما سيعمل على دعم الابتكار في قطاع الخدمات المالية.
البُنية التحتيّة للإنترنت
المشكلة:
على الرّغم من استثمار بعض حكومات المنطقة في تحسين البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، مازالت منافع هذه البنية التحتية غير مكتملة تعيقها السياسات والقيود الموضوعة على الكثير من المحتوى والمعلومات على الانترنت أو التي تقيّد المنافسة وتحد من أعداد الشركات المزودة لخدمات الانترنت.
بالنسبة لبعض الحكومات، إن تقييد المنافسة الرقمية ومنع خدمات الإنترنت الأساسيّة، مثل بروتوكول إيصال الصّوت عبر الإنترنت (VOIP)، يهدف إلى التحكّم في أسعار السّوق والسّيطرة عليها كما يهدف في نفس الوقت إلى مراقبة المحتوى الرقمي الذي يتداوله الأفراد ونشاطاتهم على الانترنت.
الحل:
لا بدَّ من رفع القيود عن كل خدمات الانترنت، وفتح الأسواق أمام منافسة عادلة، بشكل يمكّن من الحصول على خدمات الإنترنت بأسعار معقولة، هذا إلى جانب إنهاء كل الموانع التي من شأنها أن تحول دون التنقّل أو النّفاذ إلى المعلومة الرقميّة.
ضرورة تقدير الفرص المتاحة والاعتراف بها
إذا أردنا أن نستفيد من هذا الجيل من الرواد وإذا أردنا أن نبني البنية التحتية لاقتصاد شرق أوسطي مزدهر وخلاق، جني أكبر قدر من المنافع، لا بدّ لصُنّاع القرار من اغتنام الفرص المُتاحة أمامهم تهيئة البيئة المناسبة للابداع الرقمي والتكنولوجي، والتي تضم: تبسيط الأطر التشريعية والتنظيمية لتميكن نماذج أعمال الشركات التكنولوجية الناشئة، وضع اللوائح التي تيسّر المنافسة ودخول الأسواق الإقليمية، وتسهيل تنقل المهارات والكفاءات بين بلدان المنطقة، ورسم سياسات تهدف إلى بناء أسواق مشتركة للتكنولوجيا في دول المنطقة، وتطوير البنية التحتيّة في ميدان تكنولوجيا المعلومات.
بإمكان أصحاب القرار بناء مشهداً جديداً لبيئة ريادة أعمال خلاقة وتنمية التفكير الريادي، وبناء مناخ اقتصادي قادر على الاستفادة من الموارد البشرية من الشباب وتحفيز اهتمام العالم بالمنطقة وبناء نموذج يحتذى به للنهوض بالاقتصاد والتنمية.
فادي غَندور:
الرئيس التنفيذي لومضة كابيتال (Wamda Capital)ومؤسس ونائب رئيس مجلس إدارة أرامكس.
أسس فادي غندور شركة أرامكس وهي شركة رائدة عالمياً لخدمات النقل والحلول اللوجستية، وتقلد منصب الرئيس للشركة لمدة 30 عاماً، ويشغل الآن منصب نائب رئيس مجلس إدارة الشركة.
فادي غندور اليوم أحد أهم الناشطين في ميدان التكنولوجيا والمشهد الرقمي وهو الرئيس التنفيذي لومضة كابيتال، وهو صندوق استثماري للمال الجرئ للاستثمار في الشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما أنه عضو مجلس إدارة لأبراج كابيتال (Abraaj Capital)، وعضو مجلس إدارة لإنديفور جلوبال (Endeavor Global) .
ولإيمانه بأهمية الريادة المجتمعية ودورها الفاعل، قام فادي بتأسيس مؤسسة رواد التنمية والتي يرأس حالياً مجلس إدارتها.