الحرب الضروس التي تدور على ارض سوريا بكافة انواع الأسلحة، توازيها وتتماشى معها حرب كلامية وميدان المعركة هو فيسبوك ومواقع التواصل الإجتماعي.
في 28 تموز/يوليو 2012 حصلت في دمشق هزة أمنية، اعتبرت صفعة قوية للنظام. ففي ذلك اليوم وقع تفجير في قاعة اجتماع ما كان يعرف بـ "خلية الأزمة"، مجموعة الشخصيات التي من المفروض أنها كانت مجتمعة لتجد الحل المناسب لإنقاذ البلاد من العاصفة التي تجتاحها، وإذ بالأعداء يصلون إلى مكان اجتماعها، ويزرعون فيه ما وصف بأنه "مادة شديدة الانفجار"، ليقتل إثر ذلك عدد من أرفع الشخصيات الأمنية في سورية.
وبعد بيانات النعي والإدانة من الجيش والقيادة الحزبية، تلك البيانات التي لم تحمل جديدا على صعيد المضمون أو طريقة الإنشاء، تم بعد ساعات من الحادث صدور قرارات بتعيين مسؤولين جدد في أماكن المسؤولين والضباط الذين أودت الحادثة بحياتهم، وأعلن بعد أيام عن التوصل إلى معرفة الفاعل الذي كان حارسا شخصيا لأحد أعضاء الخلية وإلقاء القبض عليه ومعرفة الجهة التي تقف خلفه،و مشاهد قليلة وسريعة في تلفزيون الدولة عن دفن ضحايا العملية ومراسم التعزية بهم في قراهم ثم ... عادت الحياة إلى طبيعتها ..
حدث ذلك بعد أيام قليلة من الذكرى السنوية الأولى للثورة السورية، وقبل وصول موجة النزوح السوري إلى ذروتها، أي خروج السوريين من مدنهم وقراهم إلى دول الجوار وأوروبا بأعداد مليونية..
كان الحدث مضبوطا إلى حد كبير بإرادة ميديا النظام، سواء في وسائل الإعلام التقليدية من تلفزيون وصحافة، أو في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كان التحكم المتقدم لأجهزة النظام بهذه الوسائل بدءا من سرعة تدفق الإنترنت وصولا إلى الرقابة التي كان يمارسها النظام على معظم الحسابات الشخصية للسوريين أو لغيرهم، مايزال تحكما قوياً؛ و نتيجة لذلك بالإضافة إلى (التقيّة) الإعلامية التي اعتاد نظام البعث اتباعها منذ استلامه الحكم في سورية في 1963. فقد كان حذر السوريين من التعاطي مع الحدث الكبير عبر وسائل التواصل أمرا مفهوما ومشروعا. فما يحصل في الدولة ومراكز القرار أمر لا يعني الشعب، وليس عليهم سوى القبول به.
مع دوام وتقدم العنف بين الأطراف المتصارعة في سورية،ومع الانتشار السوري في شتّى أنحاء العالم وخروج أعداد كبيرة من السوريين من قبضة الرقابة الإعلامية القوية للنظام، اكتسب الحدث السوري صفة (المشاعية)، أي صار كل سوري في أي مكان في الأرض، يشعر أن له الحق في قول رأيه بما يحصل في أكثر مناطق العالم تعقيدا وسخونة، بلده الأم ،سورية.
وصارت وسائل التواصل الإجتماعي –فيسبوك خاصة– ساحات للمعارك بين السوريين المعارضين لنظام الأسد من جهة والمؤيدين له من جهة أخرى؛ ولم يتردد مؤيدو النظام بإنشاء آلاف الصفحات التي تروّج لوجهة النظر الرسمية بالصراع، ورغم اقتراب السنة السابعة للأزمة من نهايتها، لم يتعب هؤلاء المؤيدون من ترديد أن سبب الأزمة في سورية هو مؤامرة خارجية لمعاقبة سورية على مواقفها المقاومة للعدو الإسرائيلي، إضافة إلى تخوين كل من يعبر عن أدنى درجات المعارضة للسياسة الرسمية للنظام.
والمعارضة بالمقابل لم تتردد بإنشاء الصفحات وإعلان الحرب الإعلامية على النظام، وصارت الصفحات الشخصية والمجموعات المنظمة، تعمل بطريقة محترفة لمواكبة الثورة و مواجهة مزاعم النظام ..
وصار كل حدث سوري جبهة صراع ومعركة مفتوحة بين الطرفين، من مباريات كرة القدم حتى ملامح وجه الرئيس في ظهوره على الإعلام، وصولا إلى المعارك القتالية ونتائجها وأسبابها وأطرافها.
ونشأت طبقة مهتمة بالأحداث وقريبة منها، يطلق على أفرادها (ثوار الفيسبوك)، ويقابلها من جهة النظام ما يسمى ( الجيش السوري الإلكتروني) والذي يعتبر نفسه رديفا للجيش السوري والقوات المسلحة السورية. وشهدت صفحات الفيسبوك قبل فترة قصيرة، معركة حامية حول مشروعية تأييد ومتابعة مباريات المنتخب السوري لكرة القدم أو كما يسميه كثيرون: "منتخب البراميل أو منتخب الأسد" في تصفيات كأس العالم.
في 18 تشرين الأول /أكتوبر الفائت، حصل تطور مفاجئ وصادم على ساحة المعركة في دير الزور شرق سورية (430 كم عن دمشق)، فقد أعلن تلفزيون النظام عن مقتل واحد من أهم ضباط الجيش السوري في السنوات الأخيرة، وهو العميد عصام زهر الدين، الضابط في قوات الحرس الجمهوري السوري وابن منطقة السويداء،وقد اشتهر في معارك، بل في ما تصفه المعارضة - مجازر- أشرف عليها زهر الدين و تنسب لجيش النظام، في ريف دمشق(مسرابا) وحمص (بابا عمرو) وفي ريف حماة وأخيرا في دير الزور.
هذه الواقعة احدثت عاصفة على وسائل التواصل الإجتماعي، فظهرت سريعا الصور التي تؤكد فساده و إجرامه و ارتكابه لجرائم الحرب، ومساهمته في المجازر الجماعية ضد المدنيين الآمنين. وفي الجهة المقابلة ظهرت الصور التي تؤكد على كاريزما البطل الوطني، القائد الميداني الذي يتقدم جنوده في المعارك ، إبن السويداء أقصى الجنوب الذي استشهد في دير الزور أقصى شمال شرق سورية.
في بلد تتدخل أجهزة الأمن في كل ما يمكن أن يظهر في الإعلام ،تقدم جثمان العميد زهر الدين، وبشكل لم يعتد عليه السوريون، العلم السوري إلى جانب راية الطائفة الدرزية بألوانها الخمسة. وانتشرت صورة معروفة جدا لقائد الثورة السورية ضد الفرنسيين سلطان باشا الأطرش،لكن استبدل فيها سلطان الأطرش بعصام زهر الدين، و نقلت جنازته على الهواء مباشرة عبر قنوات صديقة لنظام الأسد، وكُرِّم كبطل وطني بامتياز.
من يعرف النظام السوري عبر حكم الأسد الأب ومن بعده الرئيس الحالي الأسد الإبن، يعلم أن البطل الوحيد في سورية هو الأسد، وأن الرمز الوحيد في سورية هو الأسد. فالنظام وعبر نصف قرن من الزمن،عمل على تكريس ظاهرة (سورية الأسد)، بسياسة منهجية مدروسة، أدت بالنتيجة إلى طمس الكثير من مراحل و رموز التاريخ السوري، واعتبارها جميعها تمهيدا لظهور القائد الرمز / المخلّص حافظ الأسد الذي سلّم الراية لابنه بشار، والرئيس الشاب حاول في بداية حكمه إجراء بعض التعديلات على نهج أبيه في الحكم، لكن لم يطال هذا التغيير عمق وطبيعة النظام القائم على القائد الرمز الذي يُختصر كل شيء في شخصه.
ولعلّ منطقة جبل العرب أو ما يعرف إدارياً في سورية باسم محافظة السويداء (10 كم جنوب دمشق)، من أكثر المناطق السوريّة التي أصابتها هذه السياسة في موضع مؤلم.
فالماضي القريب للسويداء بأغلبية سكانها الدروز، ما يزال يحتفظ بإحساس عال بالأهمية لأنها مسقط رأس( سلطان باشا الأطرش 1891-1982 ) القائد العام للثورة السورية ضد الفرنسيين بين أعوام 1923 و 1927 ، وعند الاقتراب من هذا الأمر في الحديث مع أبناء الجبل، تجد لديهم إحساس بالغبن والظلم لأنهم يعتقدون أن النظام السوري لم يعط (الباشا)، كما يسمّون سلطان، حقه في التقدير، ولم ينصفه كشخصية وطنية لعبت دوراً مهماً في الحفاظ على سورية البلد الموحد حتى بعد خروج الاحتلال الفرنسي في 1946؛ وهم بذلك يشيرون إلى المواجهة التي تمت بين سلطان الأطرش وحاكم سورية آنذاك العقيد أديب الشيشكلي الذي حكم سورية في أوائل خمسينات القرن العشرين، نتيجة اعتراض سلطان الأطرش على أسلوب الحكم الفردي الذي اتبعه الشيشكلي في الحكم .
ومن جهة أخرى فإن من يعرف النظام السوري ويراقبه باهتمام منذ 2011 وما بعد، يلمس تغيرا ما طرأ على سلوكه بالتفاعل مع الشارع، فنزل النظام في حالات كثيرة من برجه العاجي الذي يفصله عن الشارع، و صار لحظي التّصرف، وخاصة في الإعلام وما يخص الرأي العام، وفق معطيات اللحظة الراهنة، لا سيما في الأوقات التي تتطلب المزيد من التعبئة للرأي العام، وشحن الشارع بموجات التعاطف والتأييد للنظام، وذلك يحدث عندما يشعر أن وهناً قد أصاب هذا التأييد، أو أن حدثاً وقع صدفة أو بتدبير يمكن استغلاله لإعادة مد الجسور مع السوريين أو مع جزء منهم. وهذا ما فعله مع الدروز من ابناء السويداء.
عصام زهر الدين يعتبر الضابط الأبرز من دروز السويداء، ويعترف به النظام كركن مهم من أركان جيشه، فسمح لوسائل الإعلام بإبرازه كواحد من صقور مقاتليه، وذلك خلافا لما اعتاد عليه جمهور هذا الإعلام، محققا لزهر الدين ظهورا إعلاميا مماثلاً لظهور يكاد ان يكون يكون محصوراً، على مستوى الجيش، بالعقيد سهيل الحسن المعروف ( بالنمر)؛ سيما وأن ذاكرة الدروز وعبر أجيال، ما تزال تحتفظ باسم سليم حاطوم، الضابط البعثي الذي قاد انقلابا فاشلا في عام 1966 على قيادة البعث ورفاقه في انقلاب سابق حدث في الأمس القريب، وقد انتهت حياته بقرار إعدام وقعوا عليه نفس الرفاق.
كان مقتل زهر الدين فرصة ذهبية للنظام لإعادة ترتيب وجوده في السويداء، فهذا الوجود قد تعرّض لهزات عنيفة أبعدت عنه الناس هناك، بسبب انكشاف الممارسات النفعية الجرمية التي يقوم بها رجال الأمن والمتعاونين معهم من أبناء السويداء، وخاصة بعد اختطاف فتاة من المدينة؛ والتي تبيّن فيما بعد أن أرفع مسؤول أمني في السويداء يقف خلف خطفها لغايات غامضة.
قضية الخطف التي لا تزال قيد التداول، اثارة موجة من الغضب الشعبي في السويداء وترجم هذا الغضب بخطف عدد من عناصر الأمن واعدام اثنان ممن تورطوا في اختطافها. ولاشك أن جهودا كبيرة من قبل النظام تبذل الآن لاستثمار مقتل العميد زهر الدين وربطه بحل قضية تلك الفتاة.
بكل الأحوال فإن الحرب بين السوريين ما تزال مشتعلة على الأرض وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وكل واحد من السوريين سواء فرح أو حزن على مقتل العميد عصام زهر الدين، لديه سببا ليضع على الخبر علامة..إعجاب.