"إن طلاب الحقوق في جامعة كامبردج ملزمون باللباس الرسمي أثناء تواجدهم في الكلية، وذلك بما يليق بمكانة رجال القانون كنخبة فكرية وعلمية؛ وكذلك كنا في سورية نحن طلاب كلية الحقوق في جامعة دمشق."
هذا ما قاله الوزير السابق والمحامي الدمشقي الراحل "نجاة قصاب حسن" في لقاء تلفزيوني معه، في أوائل تسعينات القرن الماضي، عن دراسة القانون في سورية.
وتابع حديثه قائلاً: "كنّا ندرك أننا ـ طلاب الحقوق - نخبة الشباب السوري الذي يهيء نفسه ليكون قائدا للمجتمع في القانون والإدارة والسياسة. أما الآن، فمن يدرس الحقوق هو من لم يجد له مكاناً آخر في باقي الكليات. فكليات الحقوق في الجامعات السورية هي "قاشوش" الكليات."
عندها ابتسم المذيع المحاور، فقال قصاب حسن بنبرة لا تخلو من الحزن: "لا أعلم إن كانت الابتسامة هنا في مكانها، لأننا إن لم نهتم بطلاب القانون ورجاله فإننا نحبس بلدنا في سجن الجهل، ونمنع المجتمع من التقدم."
لا أنسى هذا الحديث أبداً، لأنني، عند سماعه، كنت طالبا في السنة الأولى في كلية الحقوق، وقفزت أمامي صورة كلية الحقوق وقتذاك، وأذكر ما كنا نتندّر به على عددنا نحن طلاب السنة الأولى، وقد كان بالفعل رقماً مهولاً يصل إلى مايزيد عن العشرين ألف طالب في جامعة دمشق فقط، ومثلهم ربما أو أقل بقليل بكلية الحقوق في جامعة حلب شمال البلاد.
الجسم القانوني والخلل في البنية:
من هنا ربما يمكن وضع اليد على أحدى العلل التي أصابت الجسم القضائي والقانوني السوري. طبعا لا تكمن المشكلة في العدد الكبير لطلاب الحقوق ودارسي القانون والمشتغلين فيه فيما بعد، فالسوريون من أكثر شعوب العالم خصوبةً وفتوةً، إنما المشكلة في أن القانون (التشريع والقضاء)، هما روح المجتمع، فهما سبب في تحديد الحالة المدنية والسياسية والاجتماعية للبلاد، يضعانها بمستوى التقدم والتحضّر الذي يريدانه من جهة، وهما من جهة أخرى نتيجة لحالة البلاد الاجتماعية والسياسية، فيتقدمان بتقدمها ويتخلفان بتخلفها.
سورية ملكية دستورية مدنية، تكفل الحريات السياسية والاقتصادية وحقوق الطوائف الدينية والمساواة بين المواطنين
وبالنسبة لسورية، فإن السوريين مايزالون حتى الآن يطلقون على مجمّع المحاكم في مدنهم اسم "قصر العدل"، وهو تعبير، لاشعوري ربما، عن أملهم بسيادة القانون، ووضع العدالة في مكانة راقية سامية مكانها قصر وليس دائرة حكومية كغيرها من المصالح العامة.
القضاء والدستور في سورية:
منذ صدور القانون الأساسي السوري، وهو الإسم الذي أطلق على دستور عام ١٩٢٠ (تاريخ انشاء الدولة السورية في العصر الحديث) وحتى الآن، صدرفي سورية خمسة عشر دستوراً، دائم أو مؤقت أو معدل.
والمفارقة هي أن القانون الأساسي في ١٩٢٠ نصّ على أن: "سورية ملكية دستورية مدنية، تكفل الحريات السياسية والاقتصادية وحقوق الطوائف الدينية والمساواة بين المواطنين، ونظام الإدارة اللامركزية". في حين أن دستور ٢٠١٢ كرّس سلطة الفرد وأعطى صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية.
ولعل تخلخل البنية القانونية والدستورية في البلاد، يعود إلى أن الاضطرابات السياسية والانقلابات العسكرية التي امتدت على فترة طويلة من حياة السوريين. حيث تعاقبت الانقلابات من ما بعد االاستقلال في عام ١٩٤٦ حتى ١٩٧٠ حين استلام الفريق حافظ الأسد مقاليد السلطة في دمشق، بعد انقلاب داخلي على رفاقه البعثيين.
يشكل استقلال القضاء الضمانة الأمثل ليكون حامي الحريات وصائن لحقوق المواطنين.
ورغم أن شكل الدولة السورية، من حيث المظهر، هو دولة مؤسسات وسلطات متعددة، وفيها انتخابات رئاسية ونيابية ومجالس محلية ونقابية وغيرها، إلا أن الحقيقة التي لاتخفى على أحد، هي أن سورية بلد مغلق، يحكمه تحالف قوي بين مجموعة من القوى التي تجيّر البلد لمصالحها، وتحكم قبضتها على الأمن والإدارة والقضاء والتعليم والتجارة وكل شيء، وتحالف هذه القوى يشكل الدولة العميقة التي تحكم الإرادة السورية.
ولعل كل ماذكرناه أعلاه، من أمن وتعليم وتجارة وغيرهم، مهم جدا في بناء الدول. لكن كقانونيين نعتبر العامل الأخطر في استقرار المجتمع هو القضاء. حيث يشكل استقلال القضاء وعدم السيطرة عليه من أية قوة أخرى في الدولة أو المجتمع، الضمانة الأمثل ليكون حامي الحريات ومُنفِذ القانون وصائن لحقوق المواطنين.
وفي نظرة سريعة على الدساتير السورية المتعاقبة نلحظ انتقالاً تدريجيا من حالة القضاء المستقل، إلى القضاء التابع للسلطة التنفيذية أي رئيس الجمهورية والحكومة.
فعلى سبيل المثال و وفق دستور ١٩٥٠، يختار مجلس النواب أعضاء المحكمة الدستورية العليا، ويقسمون اليمين القانونية أمام البرلمان. بينما وفق دستور ٢٠١٢ وهو الأحدث في سورية، يسمي رئيس الجمهورية رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية العليا، ويؤدون أمامه اليمين القانونية.
وفي دستور ١٩٥٠، يرأس مجلس القضاء الأعلى رئيس المحكمة العليا، في حين أن دستور ٢٠١٢ نصّ على أن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى.
يرى الكثيرون أن الفترة الذهبية لفصل السلطات في سورية انتهت بقيام الوحدة مع مصر في عام ١٩٥٨. حيث قام نظام الضباط الأحرار في القاهرة، بزعامة جمال عبد الناصر، بإلغاء الحياة البرلمانية التي كانت قائمة في سورية، و حل الأحزاب السياسية التي كان السوريون يعيشون من خلالها حياة سياسية فيها قدر من الديمقراطية والتنوع.
ومايزال القضاة يعينون ويعزلون بمراسيم رئاسية
واستمر الوضع على ذلك في سورية حتى الآن، فجاء في دستور ١٩٧٣ أن "رئيس الجمهورية هو رئيس المجلس الأعلى للقضاء، ونائبه هو وزير العدل -العضو في السلطة التنفيذية -، وهو -أي الوزير- الذي يترأس جلسات مجلس القضاء الأعلى في حال غياب الرئيس."
لم يستطع دستور 2012 إصلاح هذا الخلل، رغم إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن "حزب البعث هو القائد للدولة للمجتمع". ورغم إلغاء قانون الطوارئ الذي فرض على السوريين من صبيحة 9 آذار 1963 حتى 2011، وإلغاء محكمة أمن الدولة العليا، لكن المواجهات العنيفة التي قامت في سورية بعد آذار 2011 أبقت هذه الإصلاحات حبراً على ورق؛ وظهر في المقابل محكمة الإرهاب بعد صدور قانون مكافحة الإرهاب، وتوسيع صلاحية الأجهزة الأمنية، والسماح لها بتوقيف المواطن لمدة تصل إلى 60 يوم قبل إحالته إلى القضاء المختص.
ومايزال القضاة يعينون ويعزلون بمراسيم رئاسية، ويتحكم وزير العدل بتنقلاتهم الوظيفية وتحديد أماكن أداء عملهم.
ولعل دخول القضاء في آلية الفساد والإفساد هو العامل الأكثر خطورة، والذي يستوجب استنفار كافة القوى المجتمعية والسياسية و الفكرية، لوضع خطة وطنية جامعة لإنقاذ القضاء وإصلاحه، ليصبح راعي التقدم في المجتمع .
آفاق الإصلاح القضائي:
بعيدا عن كلام الأمنيات والكلام العمومي، الذي لا يمكن القول أنه خاطئ، لكن في نفس الوقت لا يمكن الاكتفاء به لتبيان ملامح المشروع أو خارطة الطريق السورية، الواجب رسمها، و الممكن تنفيذها لتحقيق الاصلاح القضائي المنشود .
لابد من الإشارة إلى أن البدء المبكر، وقبل أي حديث آخر، في الحديث عن الإصلاح القضائي، هو أمر في غاية الأهمية، فالسلم الأهلي واستقرار المجتمع السوري الذي عاش حرباً طاحنة، والدخول في نظام المواطنة الفعلية، لا يمكن إرساءه دون وجود بنية قانونية وقضائية، تتضمن تشريعات تواكب متطلبات خلق دولة المؤسسات وتعمل على إزالة آثار الحرب التي عاشها السوريون، وكان لكل فرد منهم دون استثناء حصته من آلامها وخسائرها.
وللوصول إلى تصوّرحول الإصلاح القضائي الواجب القيام به في سورية، وفق ظروف ومستجدات وضع البلاد السياسي والإداري في البلاد، حتى تاريخ كتابة هذا المقال في منتصف العام ٢٠١٩، لا بد من تحليل وضع التشريعات والقوانين في سورية وعلاقتها بنظام الحكم والمجتمع:
وأول سؤال يواجهنا هنا هو الدين وموقعه في القانون والحكم.
ورد في دستور سوريا لعام ١٩٢٠ "سورية دولة ملكية مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين ملكها الإسلام". وعام ١٩٥٠ وأثناء كتابة الدستور، ثار جدالا عنيفاً بين التيار المتدين الذي أراد التشريع السوري موافقاً لأحكام الدين الاسلامي، وأراد سورية دولة إسلامية، وبين التيار العلماني اليساري الذي كان فيه ميشيل عفلق وفارس الخوري، حول طبيعة الهوية الوطنية السورية وعلاقتها بالإسلام، وانتهى الأمر إلى النّص على أن دين رئيس الدولة الإسلام واعتبار الفقه الإسلامي مصدراً من مصادر التشريع .
ولم يذكر في دستور 2012 أن دين الدولة الإسلام، لكنه نص على أن دين رئيس الدولة الإسلام، والفقه الإسلامي هو أحد المصادر الرئيسية للتشريع، ونصّ صراحة على احترام الأحوال الشخصية للطوائف الدينية.
و في القوانين السورية الحالية، فإن التشريع االديني، إسلامي أو مسيحي أو غيرهما، هو الذي يقنن الأحوال الشخصية و قانون الأسرة و التركات ـ عدا ذلك فإن لأحكام الدين حضور قليل في القانون المدني أو التجاري أو الجزائي.
إضافة إلى ذلك فإنه وفي السنوات القليلة الماضية ونتيجة الاضطراب الكبير الذي تعيشه سورية، فقد خرجت بعض المناطق السوريّة عن سلطة الحكومة المركزية في دمشق، ويمكن القول أن غياب الدولة عن تلك المناطق جعل حياة الناس فيها في مهب الفوضى.
وحيث أن معظم هذه المناطق يتحكم بها قادة فصائل إسلامية، معظمهم أميّون أوحتى متعلمون لاعلاقة لهم بالقانون والإدارة، فقد حلت المحاكم الشرعية التي تولاها أشخاص بعضهم يفتقر لأدنى مقومات العمل بالشأن العام، واعتمدت الشريعة الإسلامية بشكل كامل في كل القوانين، ودون أي ضابط إطار أو مرجعية سوى مزاج القاضي (المفترض) ومدى علمه، وهو أمر لا بد من معالجته في معرض الحل النهائي، و النهضة التشريعية التي ننادي بها.
بكل الأحوال، فإن مسألة الدين وعلاقة التشريع الإسلامي أو غيره بالقوانين السورية، هي مسألة مهمة في الوجدان والهوية السورية، ولا بد من الخوض فيها بروح وطنية عالية بغض النظر عن موقفنا من االدين والقوانين الدينية.
يضاف إلى مسألة الدين، قضية تعدد القوانين المعمول بها على الأرض السورية، فكما ذكرنا أن الشريعة الإسلامية تطبق بشكل ارتجالي في بعض المناطق السورية، وفي منطق سيطرة النظام يُعمل بالقوانين السورية وفق الهيكلية المعروفة ودرجات التقاضي (الصلح والبداية والاستئناف والنقض)، فإن مناطق الإدارة الذاتية، الواقعة تحت سيطرة فصائل معظمها من الكورد في شمال شرق البلاد، قد أنشئت بدايةً محاكم تحت مسمى "محاكم الشعب"، وعددها تسع محاكم في تسع مدن، توجد أربع محاكم إستئناف، ومحكمة نقض في مدينة القامشلي. وتم تعديل التسمية لاحقاَ من محاكم الشعب إلى "دواوين العدالة"، وتم إلغاء محكمة النقض وصارت أحكام الاستئناف التي صار اسمها "محاكم التمييز" تصدر مبرمة، وحسبما جاء في المادة ٩٠ مما يسمى: "ميثاق العقد الإجتماعي لمناطق الإدارة الذاتية"، وهو دستور تلك المناطق: "أن القوانين السورية هي القوانين التي يعمل بها في تلك المحاكم وفي حال وقوع تناقض مع دستور المنطقة فإن المحكمة العليا المشكّلة هناك تحكم وتطبق االقانون الأصلح لمناطق الإدارة الذاتية"، علما أنه قد تم إنشاء مجموعة من القوانين والتشريعات المحلية من قبل الأكراد في تلك المنطقة، كقانون المرأة والزواج، وقانون الحياة الثقافية وقانون مكافحة الإرهاب وغيرها.
الدستور ونظام الحكم ونظام الإدارة المحلية وغيرها من الأمور التي ستُعتمد عند الحل النهائي، كل هذه الأشياء سيكون لها الأثر الفعلي والمباشر، في تحديد طبيعة النظام القضائي لذي سيتخذه السوريون لدولتهم العتيدة. وذلك من خلال تحديد طبيعة النظام السياسي، برلماني أو رئاسي أو غيره، وطبيعة العلاقة بين المناطق المختلفة والحكم المركزي؛ وكذلك طريقة الإدارة المحلية للمناطق السورية، وعلمانية الدولة، والمؤسسات الأمنية، ودورها والنظام الإقتصادي الذي سيتبع، والانتخابات بكافة مستوياتها وطريقة إجرائها، وكل ماله علاقة بحياة السوريين، فالإصلاح القانوني وإعادة هيكلة الجسم القضائي، وطريقة الانضمام إليه وضبط معاييره الأخلاقية والمهنية، هما مفاتيح نجاح أو فشل مشروع الدولة السورية ومؤسساتها المرتقبة.
فلابد من العمل على نظام سياسي يفكك آليات الفساد ويعرف أساليب معالجته ومكافحة ظهوره مجدداً، ومحصن من الإنتهازيين وأصحاب الطموح الشخصي المشبع بآليات النفعية والفساد الذي كان مسيطرا على طريقة حياة السوريين لفترة طويلة،
وهنا لا يكون الحل من وجهة نظرنا بالإقصاء والحصار، بل من خلال نظام عمل شفاف ومحكم التدابير، وبإطار قانوني واضح كما هو الحال في الدول الأقل فسادا في العالم .
مع الانتباه الشديد لما يمكن تسميته بـ "الثورة المضادة"، التي ستقوم بها قوى الفساد الآفل عصرها، وذلك للدفاع عن مكتسباتها، ولاستعادة زمام السيطرة على البلاد من جديد، حتى لو اضطرت للدخول في "المنظومة" الجديدة بغاية تخريبها.
يضاف إلى العوامل السابقة نتتائج الحرب المروّعة التي مرت بها البلاد من خراب للبنية التحتية والنسيج الاجتماعي المتهتك، والفقر الاوضاع الإنسانية المتردية، والأعداد الكبيرة من مصابي الحرب. وخراب المصالح الحيوية كالسجل العقاري والأحوال المدنية والنازحين داخليا واللاجئين إلى دول الجوار. والنظام الحالي والتركة الكبيرة التي تركها وخاصة الدولة العميقة وآثارها، القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
حل كل هذه المعضلات مرتبط فعلاً بالإصلاح القضائي، وبثقة السوريين بمحاكم تعيد لهم حقوقهم، وتنصف االمظلوم وتردع المعتدي على مواطنيتهم.
وهذا يستدعي بالضرورة إعادة صياغة أطراف العملية القضائية علاقتهم ببعضهم البعض و بالمواطنين، من محامين وقضاة وعناصر ضابطة عدلية وغيرهم، وإعطائهم حقوقهم واستبعاد الفاسدين. كون المحكمة هي الأمل الأخير للمتخاصمين في حصول كل منهم على حقه، وإلغاء القوانين الاستثنائية كافة، واعتبار الدولة طرفا عاديا في النزاعات غير ذات الصبغة الإدارية. واعتماد الشفافية في القضاء، والديمقراطية وحرية الرأي في الحياة السياسية والعامة، حيث تتكون ملامح الحياة السورية الجديدة التي يرغب فيها الجميع.
ولتسكن العدالة في قصر مهيب يليق بها هو، ضمائر السوريين.