لم يعد يستغرب السوريون رؤية نتائج بحثية أو أحصائية، تصدر من مراكز أبحاث أو جامعات أو منظمات دولية، تضع بلدهم سورية في مقدمة الدول الأكثر فساداً في العالم. والمحزن أيضاُ أن السوريين لا يستهجنون أو ينفون نتائج هذه الدراسات والأبحاث.
في وقت سابق من عام 2019، صدر تقريراً عن منظمة الشفافية الدولية لمراقبة الفساد في العالم، ومقرها برلين، حول الدول الأكثر فساداً في العالم.
جاءت الصومال على رأس قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم وحلّت سورية في المركز الثاني، كدولة يتقدم الفساد فيها على دول أخرى، مثل جنوب السودان واليمن وكوريا الشمالية والسودان وغينيا بيساو وغينيا الإستوائية وأفغانستان وليبيا. وبالمقابل فقد احتلت الدانمارك قائمة الدول الأقل فسادا في العالم تلتها نيوزيلاندة وفنلندة و وسنغافورة والسويد وسويسرا.
عندما يتحدث السوريون عن الفساد، فإنهم بالعموم، يقصدون ما يحصل في العمل الحكومي.
بيد ان الأمر الذي قد يكون مهماً في التقرير، بالنسبة للسوريين، هو موقع الدول الأكثر استقطابا للسوريين كلاجئين هاربين من الحرب، ألمانيا والسويد؛ على سبيل المثال، حيث جاء موقعهما قريب جدا من الدول الأقل فساداً في العالم.
العمل الحكومي .. الفساد:
عندما يتحدث السوريون عن الفساد، فإنهم بالعموم، يقصدون ما يحصل في العمل الحكومي أو ما يسمونه "الوظيفة". فحياتهم مليئة حدّ التخمة، بالأدلة الدامغة على أن الوظيفة العامة، في كثير من الأحيان، هي الطريق الأمثل لثروة خيالية، فيها من مظاهر النعيم ما يميزها حتى عن حياة الأثرياء الآخرين. فالثراء عن طريق الفساد، بالإضافة للمال، يقترن بقوة السلطة والقدرة على فتح الأبواب المغلقة.
يمكن القول أن الوظيفة العامة في سورية صارت أحد عوامل تشويه المجتمع.
بنية النظام الإداري والوظيفة العامة في سورية:
يمكن القول أن الوظيفة العامة في سورية صارت أحد عوامل تشويه المجتمع. حيث خلقت طبقة من محدثي النعمة، الذين يودون اللحاق بـ "لايف ستايل" الأغنياء، وهم في معظمهم من أبناء الطبقات المتوسطة وما دون المتوسطة. فصاروا يرتادون الأماكن الفخمة من مطاعم ومنتجعات ومولات تجارية ويركبون السيارات الغالية و يتفاخرون في قضاء الإجازة على شواطئ سوتشي أو مدن أوروبا أو استانبول.
ولفهم أسباب قيام دولة الفساد ضمن الدولة السورية، فإننا لن نخوض في هذه العجالة في تحليل العوامل الاجتماعية والسياسية - رغم أهميتهما - والتي أدت إلى انتعاش الفساد الوظيفي في سورية. فهذا بحث طويل ربما يتم من خلاله تحليل تاريخ سورية في المائة عام الأخيرة. لكننا هنا سنلقي الضوء على معايير الحصول على الوظيفة العامة في سورية.
وفق القانون، كل سوري يحقق الشروط اللازمة لشغل وظيفة في القطاع العام السوري، يحق له التقدم إليها عندما تتاح له الظروف. فمجانية التعليم واستيعاب كل الطلبة الراغبين في إتمام مرحلة التعليم ما بعد الثانوي، واتساع طبقة الفقراء نتيجة السياسات التنموية المرسومة والمنفذة دائما في ظروف طارئة، جعلت من جموع الخريجين الغفيرة تلهث خلف الحصول على فرصة عمل في "الدولة" كما يسميها السوريون.
يطلق السوريون صفة "الموقع المهم أو الحساس" على الوظيفة التي تسمح لصاحبها بالحصول على أكبر قدر من العائد المادي الخاص ولعل الخيبة غير الخافية على أحد، هي الأجور المتدنية التي يحصل عليها الموظف الحكومي السوري. ويعتبر متوسط الأجور في سورية متدنياً، حتى بالمقارنة مع جاريه الصغيرين، والأفقر منه بالثروات والإمكانيات المادية والبشرية، الأردن ولبنان.
هذه الخيبة تفتح باب البحث عن فرصة تحسين الظروف المعيشية بأية وسيلة، حتى لو كانت عبر الحصول على مكاسب خاصة غير قانونية وغير مشروعة، في إطار أداء الموظف لعمله الحكومي. وهذا ما نعني به الفساد.
فإذا علمنا أن المواقع الحساسة، في الوظائف الحكومية في سورية، لا يقصد بها المناصب أو المواقع الوظيفية التي تتطلب جهداًخاصاً أو خبرة أو كفاءة مميزة، بل يطلق السوريون صفة "الموقع المهم أو الحساس" على الوظيفة التي تسمح لصاحبها بالحصول على أكبر قدر من العائد المادي الخاص، بغض النظر عن المسمى الإداري للوظيفة، أو الشهادة التي يحملها الموظف، أو حتى المهام الموكلة إليه رسمياً. بناءاً على ذلك، فقد يكون أمين مستودع أو عضو في لجنة المشتريات، مهمته في اللجنة سائق سيارة، أهم من معاون مدير أو رئيس ديوان. فالأهمية هنا تأتي بالضبط من كمية الأموال التي يمكن أن يحصل عليها الموظف متسترا بوظيفته، وعلى قدرته أيضاً على ترتيب أوضاعه مع مديريه الأعلى منه مرتبة في الوظيفة.
ولعل البحث في العوامل المباشرة التي تساعد الفاسد على تحقيق مآربه المادية، يفيد في فهم آلية تراكم الفساد في العمل العام الوظيفي في سورية.
أول هذه الأسباب هو فكرة الامتياز من خلال التعيين في الوظيفة. فلا يكون الحصول على فرصة العمل في الوظيفة الحكومية السورية تتويجا لمراحل متصلة من التأهيل والدراسة والتدريب. بل يكفي في بلد تحكمه عقلية الحزب الشمولي والأجهزة الموكلة، بالتأكّد من ولاء الأفراد في كل لحظة للنظام القائم. بل يكفي أن تعلن عن ولائك واستعدادك لخدمة النظام القائم وفق مايرغب، وأن تكون مستعدا للتضحية بكل شيء في سبيل تثبيت قوامة هذا النظام على الدولة والمجتمع. و"كل شيء" هنا تتضمن التضحية حتى بالقانون والنظام العام.
السوريون يعلمون أن الفساد في بلدهم هو منظومة لها هيكلية ومعايير
والأكثر ذكاءاً هنا، هو الأكثر قدرة على تكييف القوانين وتطويعها لخدمة أهداف النظام في الهيمنة على كل شيء. عندها يتم غض النظر عن مكافأة الفاسد لنفسه ولزملائه في العمل - وهم بمعنى آخر شركاءه - ببعض الفوائد المادية التي سيعمل على تحسينها بذكائه طبعاً!!
والأسباب الآخرى التي تمكّن الفاسد من تحقيق أهدافه، هي تخلف القوانين ورجعيتها وتخلف العمل الحكومي. فمازالت أصول التعيين والترفيع، على درجات السلم الوظيفي العام في سورية، تعود لأكثر من 70 عاما مضت، عندما كان عدد سكان البلاد لايتجاوز الملايين الخمسة.
يضاف إلى ذلك عوامل أخرى ناجمة عن خصوصية الإدارة السوريّة، لجهة الوضع الحزبي والأمني للموظف، إضافة إلى ضعف الأتمتة وانعدام الاعتماد على شبكة الانترنت في معظم المرافق العامة السورية، واعتماد العمل الوظيفي على السجلات والدفاتر اليدوية في معظم الأحيان. كل هذا وغيره، جعل من الوظيفة العامة في سورية، مرآة حقيقية تعكس التخلف الذي دفع بالبلاد إلى الوراء اقتصاديا واجتماعياً.
ولعل الحديث عن سبب ليس بقليل الأهمية، ولكنه يحتاج بحث مستفيض، وهو انهيار منظومة القيم العامة وضعف الاحساس بالمواطنة والانتماء، يساعد في فهم ما آلت إليه الأوضاع في سورية منذ 2011 حتى الآن، فالانهيار القِيَمي العام، جعل العنف في المجتمع السوري يصل إلى مستويات مرعبة على صعيد الانتشار والنوعية.
حتى الآن ومما سبق يمكن ملاحظة أننا نتحدث عن الفساد الفردي أو الشخصي أو الضيق النطاق، لكن بالتأكيد كسوريين نكون متجاهلين لحقيقة البلد أو منفصلين عن الواقع إذا ما اقتصرنا في بحثنا على إطلاق الآراء أو وجهات النظر التي تبحث في الحالات الضيقة أو الفردية. فكل سوري بمعدل ذكاء عادي، يستطيع إخبارنا بتحليل جيد، أن الأمر في سورية أكثر خطورة وعمقا من إيراد الأمر كمانشيت عريض في صفحة الحوادث في صحيفة أو نشرة أخبار.
هناك جرائم غير ملحوظة، مثل إهمال المدرس لعمله في المدرسة الحكومية
فالسوريون يعلمون أن الفساد في بلدهم هو منظومة لها هيكلية ومعايير، بل يمكن القول بثقة أن لمنظومة الفساد قوانينها وأصولها، وهو - أي الفساد- تحول إلى حالة متضخمة، وإدارة ظل تحكم البلد إلى جانب الادارة الرسمية، لكن يميز منظومة الفساد أنها تتفوق على منظومة الإدارة الرسمية للبلاد في الدقة في معرفة أهدافها، وفي المهارة في الوصول إلى هذه الأهداف وبالقوة أيضاً. ويعرف السوريون الكثير من الأحداث أو الحوادث التي أصابت أشخاصاً في مقتل على صعيد حياتهم الوظيفية أو الاجتماعية والعائلية أو حتى سلامتهم الشخصية، حوادث تناقلها الناس، وصارت حكايات تنتهي بعبرة تدعو الشعب إلى التعقل قبل التفكير في الوقوف في وجه ماكينة الفساد. هذه الماكينة التي تجر قطاراً قويا وسريعاً، لا يتردد في إزاحة كل ما أو من يعترض طريقه في سبيل الوصول إلى أهدافه.
ومع انعدام الديمقراطية، وفي ظل السياسات الحكومية المغلقة، والاقتصاد المركزي سواء الاشتراكي الموجّه، أو ما قيل أنه التدخل الإيجابي من قبل الحكومة – أي ما سمي في العقد المنصرم "اقتصاد السوق الاجتماعي"، وعبر البيروقراطية المتكلسة و انعدام روح المبادرة والاحتكام لأمر المدير، ساهم ذلك كله في إنعاش مناخ الفساد، و سيطرته على مفاصل العمل العام بل وتوجيه هذا العمل بما يخدم مصالحه.
ومن صور و وسائل الفساد الأكثر حضوراً في سورية هي :
- الرشوة: أي منح الموظف الحكومي أموالا أو مكاسب أخرى، ليقوم بعمل ما في معرض قيامه بعمله، وغالباً مايكون هذا العمل مخالف للقانون، لكن في سورية قد يتقاضى الموظف رشوة لقاء قيامه بواجبه .
- صرف النفوذ: وهي جريمة نصّ عليها قانون العقوبات الاقتصادي السوري الذي كان سيفا يشهر بوجه الفاسدين المنتهية صلاحيتهم. وصرف النفوذ يعني أن يحصل الموظف على منافع، هي على الأغلب مادية، نتيجة استغلاله لسلطته على مرؤوسيه أو غيرهم من الموظفين، للحصول على ميزات أو قرارات لصالحه الشخصي، أو لصالح غيره لكن بمقابل مادي.
- إساءة استغلال السلطة أو المنصب: حيث يقوم الموظف باستخدام موقعه الوظيفي لتحقيق ثروة، من خلال خدمته لشبكة علاقات ومصالح شكّلها نتيجة موقعه الوظيفي.
- اختلاس الأموال العامة: وهو أمر شائع في سورية، إن كان بطريقة إحتيالية أو بالأخذ المباشر. وقد انتشرت في فترة سابقة ظاهرة هروب رؤساء مصارف زراعية، وذلك بعد أن يحملوا معهم الأموال التي حولتها الدولة إليهم لدفع ثمن محصول القمح للمزارعين.
- الابتزاز: وهذا نلحظه كثيرا في الجيش، حيث يتم إكراه العناصر على دفع الرشوة ليحصلوا على حقوقهم القانونية.
- ويندرج ضمن جرئم الفساد: التهريب الذي يتم بإشراف عناصر الجمارك أو غيرهم من المكلفبن بقمع النهريب. وتهريب الآثار وبيعها كذلك، والمخدرات ولاعتداء على الصحة العامة والبيئة وغيرها الكثير.
وهناك جرائم غير ملحوظة، مثل إهمال المدرس لعمله في المدرسة الحكومية، ليلجأ الطلاب إليه ليعطيهم دروسا مأجورة. إهمال الأطباء لعملهم في المشافي الحكومية لتسريب المرضى إلى عياداتهم الخاصة. فساد مدرسين الجامعة و توزيع علامات النجاح بمقابل منافع مادية أو معنوية من الطلبة. وغيرها الكثير مما خبره وعرفه الشعب السوري عبر عقود.
بات الفساد هو الحاكم في الدولة.
وتنفجر بين فترة وأخرى، في وسائل الإعلام السورية، قضية فضح واكتشاف ملفات فساد، تهدر المال العام وتعيق عجلة التقدم والتنمية، ويحال بعض الأشخاص إلى القضاء، وتتم مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لهؤلاء الأشخاص وعائلاتهم. لكن الملفت أن الفساد كظاهرة جمعية يزداد ويستفحل، ولا يراعي أو يرتدع نتيجة ذلك أيا من الموظفين الفاسدين أو حتى يخشى العقاب .
وبالطبع فإن للفساد آثار ونتائج ضارة بل مدمرة منها:
- تعميق الفوارق الطبقية في المجتمع، نتبجة نشاطات اقتصادية غير حقيقية. وازدياد الهوّة المعيشية بين الفقراء والأغنياء في البلد.
- يقلل من إيرادات الخزينة العامة، نتيجة التلاعب بالبيانات المالية والضرائبية، وإصدار القرارات غير الصحيحة وغيرالقانونية التي تهدر الأموال العامة.
- تعطيل عجلة النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية وتراجع مخصصات التعليم والصحة وغيرهما.
- تراكم الاحتقان والسخط في نفوس الناس نتيجة الإحساس بغياب العدالة وانعدام الثقة بالحكومة .
- ظهور طبقة من الفاسدين الذين سيعملون بشكل دائم على إفساد المجتمع لحماية مصالحهم أولاً، و لتعميم ظاهرة الفساد، مما يبرئ ساحتهم من الارتكابات بحق المجتمع وحياة المواطنين.
الرقابة و الإصلاح:
الحديث عن حلول إصلاحية هو أمر أقل بكثير من اللازم ينظم القانون رقم 24 لعام 1981 عمل الهيئة المركزية للرقاية والتفتيش في سورية، كما ينظم القانون رقم 64 لعام 2003 عمل الجهاز المركزي للرقابة المالية. وهما الجهتان اللتان منحهما المشرع السوري سلطة الرقابة على عمل الحكومة كمؤسسات وأفراد.
ويمكن تعريف الهيئة بأنها هيئة رقابية مستقلة ترتبط برئيس مجلس الوزراء، ماعدا - وكما ورد في القانون - أمور التسليح و وزارة الدفاع، وقوى الأمن الداخلي في وزارة الداخلية، والقضاء بأنواعه العادي والإداري والعقاري. فإن هدف الهيئة هو تحقيق رقابة فعالة على عمل إدارات ومؤسسات الدولة المختلفة. ومن مهامها، إضافة إلى ذلك، دوراً استشارياً تقدمه الهيئة بإعطاء الرأي بصحة البلاغات والقرارات، ومراقبة العمل الحكومي وتنفيذ القوانين والخطط الاقتصادية المقررة، وكذلك مراقبة الحسابات الختامية للإدارات العامة، وبحث شكاوى المواطنين والكشف عن الجرائم المتعلقة بالموظفين والتحقيق في قضايا الاختلاسات.
وقد تم تفريغ استقلالية هذه الهيئة من مضمونه من خلال أمرين: الأول هو أن عمل الهيئة يتبع لرئاسة مجلس الوزراء. والثاني هو أن تمويل الهيئة من ميزانية مجلس الوزراء، وبذلك هي تتبع كلياً للسلطة التنفيذية التي من المفترض أنها رقيب وحسيب على عملها.
أما الجهاز المركزي للرقابة المالية، فهو أيضاً هيئة رقابية حكومية مستقلة، ترتبط برئيس مجلس االوزراء. ومن اختصاصات الجهاز: الرقابة المالية على إدارات الدولة لجهة النفقات والإيرادات، وصحة الإجراءات المالية وقانونيتها. ويمارس الجهاز المركزي للرقابة المالية رقابة مسبقة على القرارات المالية لحساب المعاشات، وتأشير قرارات صكوك الترفيع الدوري للعاملين في الدولة، وقيود سجلات المستودعات والصرف والتحصيل والحسابات العامة، وكذلك تدقيق المنح والإعانات من المنظمات الدولية. ويمارس الجهاز رقابته عبر الشكاوى المقدمة إليه أو بالتفتيش المفاجئ .
ومع هذا كله، فإن العارف بأحوال الجهاز المركزي للرقابة المالية، أو الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، يدرك تماما أن عملهما على درجة من الترهل و البيروقراطية، و نقص الكوادر وضعف الإمكانات المادية، تجعلهما جزءاً لا يختلف عن أي من الدوائر العامة الحكومية، ولا تبتعد كذلك عن العاملين في كلا الجهازين، بعضهم على الأقل، شبهة الفساد وقبول أو طلب الرشاوى والإثراء غير المفهوم وغير المشروع. إضافة إلى هيمنة الجهات الوصائية، الحزبية أو الأمنية، على عمل الجهازين، مع ما لحظناه سابقا من التبعية الإدارية و المالية لرئاسة مجلس الوزراء.
الحلول المطلوبة.. عَودٌ على بدء:
يمكن الحديث بهدوءعن مكافحة االفساد في أي مكان من العالم، والوصول إلى نتائج وتوصيات. أما عن الفساد في سورية فالحديث متشعب ومؤلم. فنحن أمام وضع معقد ناجم عن سنوات طويلة من الفساد الإداري و المالي، حتى بات الفساد هو الحاكم في الدولة. إضافة إلى السنوات الأخيرة التي اتسمت بالعنف و الدمار والتبدلات الديمغرافية العميقة، ونشوء قوى إجتماعية وعسكرية تنافس الدولة وتزاحمها على دورها في إدارة الحياة العامة للسوريين. وانتشار هائل للسوريين في كافة جهات المعمورة، الأمر الذي سمح لهم بالاطلاع على الحياة والإدارة والقانون في بلدان متقدمة في أوروبا وكندا وأستراليا. لذلك فإن الحديث عن حلول إصلاحية هو أمر أقل بكثير من اللازم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن الحلم بحلول سحرية تغير طبيعة الوظيفة العامة السورية وتغير الموظف السوري هو أيضاً ضرب من الوهم والخيال.
فالحل الذي أسمح لنفسي باقتراحه: هو الصعود إلى أعلى الهرم، والبدء بافتراض الحل، بعد قيام الحل السياسي للأوضاع الميدانية المتردية في سورية. حينها على السوريين البدء الفوري بعملية إصلاح دستوري وقانوني عميقة، تتناول إعادة صياغة مفهوم الدولة - الوطن ومعنى المواطنة - واعتماد الشفافية و الديمقراطية في الحياة العامة. ولابد من مراعاة الكفاءات الإدارية الخبيرة في البلد، التي لاحياة لها سوى حياتها الوظيفية وعملها، بغض النظر عمّن يحكم البلاد. وبعد اعتماد قيم الدخول في المجتمع الشفاف والوظيفة العامة المؤتمتة، وإعطاء المواطن أو الموظف ما يكفيه للعيش بكرامة وأمان، يمكن بعدها الحديث عن الإصلاح الوظيفي و الرقابة. الإصلاح الذي بالتأكيد سيقوم على نظام وأسس جديدة، مستفيداً من تجارب الشعوب التي نجحت في الحد من الفساد إلى درجة كبيرة.
عندها يمكن إحالة الفاسد إلى القضاء ومحاكمته بنزاهة وعدالة .. وهذا التفصيل المهم جداً أي القضاء العادل والنزيه، هو حديث له شجونه سنخوض فيه في مقال لاحق.