فيما يزداد الوضع سوءاً في حلب، لابد لنا من ذكر وتكريم الشجاعة الفائقة لمتطوعي الدفاع المدني في سوريا، منظمة بحث وإنقاذ من تحت الركام والانقاض.
في السنوات الخمس الأخيرة من الحرب السورية، وبعد القصص التي سمعناها عن منظومة "الدفاع المدني السوري" اكتشفنا ان الأبطال الخارقين ليسوا محض خيال، بل هم موجودون بالفعل. ربما ليس لديهم القوى الخارقة -التي نعرفها من الأفلام- ولكن لا شك بأنهم يملكون شجاعة كل هذه الشخصيات الخيالية مجتمعة، قدراتهم الخارقة هي عزيمتهم واصرارهم على انقاذ الأرواح.
بعد القصف مباشرةً، يهرعون إلى الأحياء السكنية والمناطق التي أُمطِرَت بالصواريخ والبراميل المتفجرة؛ مع انهم يعلمون ان الخطر لم يزول بعد وان المزيد من الغارات يمكن ان تستهدف المكان الذي وصلوا إليه، ولكن لديهم رؤية يحيون لأجلها وهي الشعار الذي اتخذوا منه مبدأً لعملهم "من احياها كأنما احيا الناس جميعاً" بكل بساطة.
بعيداً عن الطموحات السياسية والعسكرية وبعيداً عن الارتباط بأي اجندات غير معلنة، يسعون لإنقاذ الأرواح، في أخطر الأماكن المأهولة في العالم. أنقذ متطوعو المنظومة ما يزيد عن ٦٢ ألف شخص منذ تشكيل المنظومة، وفقد أكثر من ١٣٠ متطوع منهم حياته في دوامة القصف اللامتناهية، كما أصيب العديد منهم بإصابات دائمة كفقدان أحد الأطراف.
بدأت المنظومة التطوعية هذه عملها كـ"وحدات استجابة للأزمات" في أواخر العام ٢٠١٢، متخذة من مبادئ "الدفاع المدني" مبدأً لها. كانت بدايات عملهم في مدن دوما، الباب وحلب التي تصنف اليوم كأخطر مكان في العالم.
البداية كانت بمعدات بدائية وموارد محدودة للغاية، بخبرات ضئيلة مقارنة بحجم الكارثة، الكارثة التي وصفاها مدير المنظومة في حلب عمار السلمو قائلاً: " حتى نستطيع استيعاب حجم الضرر والتهديد والدمار للمأساة الحاصلة في سوريا بشكل دقيق علينا أن نتخيل حدوث زلزال بدرجة ٧،٦ ريختر٥٠ مرة في اليوم الواحد"
لباسهم عبارة عن بدلات عمل؛ بالألوان الكحلي او البني الفاتح؛ و"الخوذ البيضاء" التي أصبحت علامتهم الفارقة، والاسم الذي اشتهروا به في شتى اصقاع العالم. يقضون ايامهم ولياليهم في حالة استنفار استعداداً للتحرك بعد القصف القادم. عند توقف الغارات، يبدأ عملهم. يمشطون المناطق والأحياء المقصوفة في بحث عن ناجين، باحثين عن أدنى بصيص امل وحياة بين الحطام الذي خلفته آلة القتل في اخر غارة.
تم ترشيح الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء" لجائزة نوبل للسلام هذا العام، ومن يستطيع ان يجادل باستحقاقهم لنيل هذه الجائزة؟
هنالك بعض الأصوات التي تقول بأن هذه المنظمة هي أداة غربية في هذه الحرب؛ على اعتبار ان جزءاً من تمويلهم تأمنه جهات مانحة أمريكية؛ ولذلك لا يجب ترشيحيهم لهذه الجائزة. رغم عدم حصولهم على نوبل، ترشيح المنظومة لهذه الجائزة، حشد دعم وتعاطف لهؤلاء المتطوعين على مستوى عالمي. في نهاية المطاف حصلوا على جائزة "رايت لايفليهود" المعروفة باسم جائزة نوبل البديلة، في نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الماضي "لشجاعتهم الفائقة والمساهمة في انقاذ الأرواح في الحرب".
أصحاب الخوذ البيضاء هم مجموعة متطوعين، يبلغ عددهم الثلاثة آلاف تقريباً، من جميع أطياف المجتمع؛ خياطون وبناؤون، صيادلة ومعلمين ورجال إطفاء. رجال ونساء؛ اجتمعوا وتوحدوا بغية انقاذ ومساعدة الناس، بغض النظر عن انتماءاتهم. حيث يلخص أحد المتطوعين عمله بقوله: "عندما ابادر لإنقاذ حياة أحدهم، لا يهمني ان كان عدو او صديق. ما يهمني هو الروح المعرضة لخطر القتل".
يواجه متطوعي الخوذ البيضاء في حلب اليوم خطر الإبادة، حيث ما انفك سلاحي الجو الروسي والسوري يقصفون المدينة ويستهدفون مراكز المنظمة بشكل ممنهج. وبينما سمائهم تمطر قذائف، تتعرض بضعة الكيلومترات التي لاتزال تحت سيطرة قوى المعارضة في المدينة لأشرس هجوم بري من قبل قوات النظام والميليشيات الداعمة له، جاعلين العملين الإنسانيين عاجزين عن العمل. في أحد التغريدات من داخل حلب يوم الإثنين ١٢/١٢/٢٠١٦ يقول الدفاع المدني: "لا يوجد حصيلة لشهداء مدينة حلب المحاصرة اليوم، جثث الشهداء تملأ الشوارع" واصفين الوضع في احياء حلب المحاصرة بـ"الجحيم".
بالنسبة لي ولكثير من السوريين، أصحاب الخوذ البيضاء يمثلون الضوء الوحيد الساطع في ظلمة الأزمة السورية، مؤكدين ان في اشد الظروف قسوة، باستطاعتنا تقديم المساعدة. وفي وسط اليأس، الدفاع المدني لم يساعد الناس الذين سحبوا من تحت الركام فحسب، بل ساعَدونا نحن، في شتى انحاء العالم ايضاً؛ ساعدونا في ان رسخوا ايماننا بأمتنا وأهلنا الذين نحب.
الخوذ البيضاء ليست مجرد منظمة إنسانية تعمل على انقاذ أرواح تكاد تزهق، هم رسالة ومنهج فكر يتحتم علينا نشره في عالمنا، لتسطع انسانيتنا كما تسطع في ظلام الحربٍ مصابيح خوذهم لتكون النور الوحيد لأرواح تحصدها آلات القتل؛ هذه الرسالة تتعدى حدود الوضع المريع في سوريا، هي رسالة يجب ان تلمس قلب كل انسان في كل مكان وزمان.