على تلك البقعة الجميلة من الأرض، سوريا، كان للحياة طعم جميل، كان لأهلها نصيب من راحة البال وللأمان مكان في شوارعها. بعد ستة سنوات من حرب لا منطقية، انقسم الناس أطيافاً وأحزاباً، واُلزم الشباب أن يعيش هذا الانقسام رُغما عنه تارك أحلامه هباء الرياح.
خلال ستّ سنوات من الحرب دُمرت العديد من المدن السورية منها مدينة إدلب الواقعة في شمال سوريا وتبعد 330 كم عن العاصمة دمشق. عُرفت بإدلب الخضراء لكثرة أشجار الزيتون التي تحيط بها من كل جانب لتبدو كجزيرةً وسط الأشجار المتأصلة فيها والقديمة قدم الحضارات التي عاشت على أرضها.
على الرغم من غناها بالزراعات والآثار، لم تُعطى إدلب حقها؛ فالمواقع السياحية غير مُستثمرة ولا يمر بها طريق دولي أو سكة حديدة مع أنها احدى منافذ سوريا إلى تركيا.
هذه المدينة التي لطالما كانت منسية حتى بدأت الثورة، حيث باتت ميدان كرٍ وفرٍ بين قوات النظام السوري وعدة فصائل مسلحة تحت اسم جيش الفتح لتنتهي المدينة وريفها تحت سيطرة جيش الفتح وبالتالي قصف الطيران.
نزح معظم أهالي المدينة إلى تركيا أو إلى قرى إدلب الأقل عرضة للقصف، بينما نزح بعضهم إلى مناطق سيطرة النظام السوري.
نزحوا أهلها مُكرهين، لكن الموت المحدق كان أقوى منهم، مع هذا بقي القليل منهم المتعلق بالأرض والتي يرونها جوهر وجودهم والذي أرادوا الاحتفاظ به حتى موتهم.
كانت منال، ٢٥ عاماً، وعائلتها من الأهالي الذين بقوا في ادلب المدينة. منال أتمت دراستها الجامعية بالأدب الانكليزي في جامعة ادلب وكانت من الأوائل على دفعتها ما أتاح لها دراسة الماجستير في جامعة تشرين في اللاذقية وبهذا خطت خطوتها الأولى نحو حلمها الذي ما فتئ أن انتهى عندما سيطر جيش الفتح على مدينة إدلب وبدأ قصف الطيران في 28/3/2015 تزامناً مع انقطاع الاتصالات عن ادلب.
عاشت منال أسبوعاً لم تعرف فيه النوم، كانت تحاول معرفة أي خبر يطفئ نار قلقها على أهلها لكن دون جدوى. تشاهد الأخبار وترى مدينتها تُقصف وتُهدَم فوق رؤوس أصحابها، وتزداد مخاوفها عندما ترى القصف على مقربةٍ من منزل عائلتها.
بعد أسبوع تلقت اتصال من خالها، الذي نزح إلى مدينة حماه، وسط سوريا وعلى بعد 120 كم عن إدلب، والتي لا تزال تحت سيطرة النظام. حزمت أغراضها، تاركة حلمها بإكمال دراستها، للبقاء بجانب أبيها وأمها المريضة، تخلت عن مستقبلها وذهبت الى خالها في حماه ومنها للقاء أهلها لتحضنهم كأن دهرا قد مرَ على فراقهم.
بدأت بعدها معاناة النزوح حيث مكثوا في بيت صغير ريفي كانوا قد استأجروه في معرة النعمان، في ريف إدلب، لمدة شهرين وبعد قصف معرة النعمان نزحوا إلى سرمدا، في الريف ذاته، حيث لم يكن حال البيت الذي استأجروه أفضل لكن القصف الشديد اجبرهم على النزوح من سابقه.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2015 عُقدت هدنة بين قوات النظام وجيش الفتح، عادت بعدها منال وأهلها الى منزلهم ليصلحوا ما تهدم منه جراء الغارات.
بعد تركها دراستها رفضت منال أن تجلس مكتوفة الأيدي ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 بدأت منال التدريس في الثانوية الشرعية للبنات في مدينة إدلب لمدة سبعة أشهر، في أول شهر ونصف كانت المدرسة قائمة على جهود المعلمات حيث كانوا يعملون تطوعاً بدون أجر لحين ما تبنتها هيئة الشام الإسلامية (منظمة إسلامية تُعنى بالمحافظة على الهوية الإسلامية والعناية بالتعليم) وأصبحوا يتقاضون راتبا شهريا.
منحت منال كل طاقتها لتقدم لهؤلاء الطالبات المعلومة بطريقة ممتعة حتى أحببن اللغة الانكليزية وقررت بعض الطالبات دراسة هذه اللغة. لكن بعد انتهاء الهدنة، التي دامت 6 أشهر، بدأت حملة قصف عنيفة، تلاها نزوح الأهالي الذين كانوا يخشون الموت في احدى المجازر التي كانت ترتكب بشكل شبه يومي من قبل الطيران الحربي، فكان تغيُّب الطالبات يزداد حتى تقلص عدد المجموعات الى مجموعة واحدة وأصبح الدوام يوماً واحداً بالأسبوع.
في كانون الثاني/ يناير 2016 وبالتزامن مع عملها في المدرسة الثانوية استطاعت منال تكوين مجموعة من سبعة شابات وبدأت بإعطاء دروس في اللغة الانكليزية في بيتها لمدة خمسة شهور.
اعتبرت منال هذه الدروس تجسيداً لجزء من حلمها، كان ماجستير طرائق التدريس هدفاً سعت إليه واستطاعت الوصول له وبقرار منها تركته لكنها ظلت متمسكة به بشكل أو بآخر، ابداعها بالتدريس في كل مرة كانت تقف أمام طلابها كان برهاناً على شغفها.
أحيانا وأثناء دروسهن كانت صفارات الانذار تدوي وتدبُّ الرعب في قلوبهن ما يدفعهن للجلوس في الدهليز حيث لا يوجد نوافذ تسمح للشظايا بأن تجد طريقها إليهم.
كثيراً ما كانوا يمضون ساعات بانتظار أن يأتي أهلهم لأخذهم وأحيانا كانت تتشجع بعض الفتيات ليجدن طريقهن للمنزل تحت القصف ودوي صفارات الإنذار.
مع هذا فإن حماس الطالبات ومنال لم يتوقف فقد تابعت الدروس حتى أُنشأت نقطة طبية في الحي وأصبحت المنطقة مستهدفة. نفذ الطيران عدة غارات على الحي ولكن الأقوى كانت في الليلة التي سبقت شهر رمضان في حزيران/ يونيو 2016.
غارة جوية للطيران أمام البيت، تركت منزلهم خراباً مجرداً من كل شيء إلا جدرانه التي بقيت صامدة، بينما كانت منال وأهلها يتحضرون للشهر الفضيل.
طمئنوا بعضهم أنهم بخير بعد هذا الكابوس المرعب الذي تغيرت بعده ملامح الحي الذي ساده الخراب وارتقت أرواح الكثير من أهله إلى السماء.
نزحت منال وأهلها إلى مزرعتهم الواقعة بين الأراضي الزراعية المحيطة بالمدينة والبعيدة عن مركزها المستهدف. عاد أهل المنطقة الى منازلهم، بعد اصلاح بيوتهم، بينما لازمهم الخوف من غدر الغارات المدمرة ولكن سقوف بيوتهم ودفء ذكرياتهم لطالما كانت كفيلة بإعادتهم إليه بعد كل نزوح.
ولكن حطام تلك الغارة العنيفة سدّت فسحة الأمل المتبقية لدى منال، فانتهت دروس اللغة التي استمرت خمسة أشهر لخوف الطالبات من المجيء لمنطقة بيتها.
بعدما هدأت الأوضاع نوعاً ما وفي محاولة للهروب من الواقع، بدأت منال التدريس بمدرسة ابتدائية في تموز/ يوليو 2016. تلك العشر دقائق التي تمشيها يومياً في طريقها إلى عملها كانت كافية لاسترجاع ذكريات طفولة ومراهقة وشباب طبعت صوراً وضحكات من القلب مع أناس قد هاجروا بعيداً وظل طيفهم يسكن المكان.
بالرغم من قرب المدرسة من بيت منال إلا ان الهجمات الشرسة اللامتناهية للطيران وخصوصاً بعد أن تم استهداف احدى المدارس في المدينة وراح ضحيته العديد من الطلاب والمعلمات، جعل أهل منال يعارضون ذهابها إلى عملها خوفاً عليها، لكنها كانت تصرُّ على متابعة عملها مع أن معظم الأولاد نزحوا مع أهلهم فأصبح عددهم لا يتجاوز العشرة.
كلما كانت تشتد حدة الهجمات كان الدوام المدرسي ينفضُّ في منتصفه فيأتي الأهالي مسرعين لأخذ أولادهم خائفين من غارة يمكن أن تفجعهم بأحد أطفالهم، كذلك كانت المعلمات يسرعن الى بيوتهن للاحتماء. كان مشهد الرعب هذا يستمر بشكل شبه دائم على مدى ثلاثة شهور. في كل مرة كانت تشتد فيها الهجمات، كانت منال وأمها وأبيها يحتمون في مزرعتهم المنعزلة عن كل شيء، لا جيران ولا ناس ولا حتـى مكتبتها التي باتت صديقتها الوحيدة بعد أن سافرت جميع أخواتها وتفرقن بين دمشق وتركيا وألمانيا. انتهى دوام المدرسة الصيفية في ديسمبر 2016 بين خوف وتقطع للدوام وبدون تحقيق أي انجاز.
قررت منال أن تتقدم بالطلب لتصبح معيدة في جامعة إدلب بعد تردد دام طويلاً و ذلك لأن جامعة ادلب تابعة لجيش الفتح, السلطة الحاكمة في إدلب حالياً, لم تكن ترغب أن يندرج اسمها على القائمة الطويلة للمطلوبين لدى النظام السوري لعلها يوماً ما استطاعت العودة لإكمال الماجستير في اللاذقية, لكن و بسبب قلة فرص العمل لدى الشابات في مدينة إدلب في الوقت الراهن و انحصارها إما بالتدريس أو المنظمات الدولية و التي تكثر فيها المحسوبيات, تقدمت بالطلب لتكون معيدة بجامعة ادلب و لأنها من الأوائل كان لها الأحقية, ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2016 بدأت منال عملها في الجامعة.
قصة منال ومعاناتها في مدينة مثل إدلب، خرجت عن سيطرة النظام، مثال لقصص أخرى كثيرة للشباب السوري الذي بات يعيش كل يوم بيومه دون الالتفات إلى ماضٍ بدا كأنه حلم جميل لم ينعم به، ودون التطلع إلى مستقبلٍ في أغلب الظن هو زائف.
أصبح الشباب ينظر إلى كل شيء على أنه غير باقٍ حتى جسده يمكن أن يكون عرضة لرصاصة أو شظية طائشة. ويبقى مصير هذا الشباب معلقاً كمصير الحرب السورية التي لا تُرى نهايتها.