الجيش عبر التاريخ له هيبة ورهبة، وخاصة عندما يحقق الانتصار على العدو، حيث يصبح موضع فخر واعتزاز لدى الشعب، ويدخل قادته الصفحات الأولى من كتب التاريخ، وتصوّرهم المناهج المدرسية أبطالاً صنعوا المجد لبلادهم.
ولطالما كانت للقيادة العسكرية الحكيمة الدور الرئيسي في تحقيق الانتصارات على الأرض، وتحفل كتب التاريخ بأسماء قادة عسكريين عظام، وعبقرية عسكرية غيرت مسار التاريخ والجغرافيا بخططها وتكتيكاتها. فأصعدت امبراطوريات وأسقطت أخرى.
ولا شك بأن قدرة الجيوش العسكرية، كانت ومازالت، عامل مهم من عوامل ثقل الدول على ميزان القوى الدولية، كما يساهم في وضعها على خريطة صنع القرار الدولي؛ ولنا في الدول أصحاب الفيتو في مجلس الأمن مثالاً على ذلك.
إن الحربين العالميتين الطاحنتين التين ازهقتا ملايين الأرواح، وأدّتا إلى تحولات سياسية كبيرة، سقطت فيها امبراطوريات عريقة مثل الروسية والألمانية والنمساوية والمجرية والعثمانية، هما أكبر دليل على أهمية القوة العسكرية.
يمكن القول بأن الجيش والأجهزة الأمنية تحولوا إلى حامٍ عنيد للرئيس بشخصه
المراحل الأولى في تشكيل الجيش السوري:
تأسس الجيش السوري في العام 1946 بعد جلاء الانتداب الفرنسي عن سوريا، وسرعان مابرز كلاعب بارز في الحياة السياسية في سوريا، حيث قاد الجيش الوليد عدة انقلابات عسكرية كان آخرها وصول وزير الدفاع وقائد القوى الجوية حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970. ولطالما شكلت الجيوش العربية، في مرحلة مابعد الاستقلال، أي في النصف الثاني من القرن العشرين، مصدراً، يكاد يكون الأوحد، لإنتاج السلطة وتثبيت دعائم الحكم في بلدان مثل سوريا، مصر، العراق، ليبيا، اليمن، الجزائر، السودان وغيرها. لكن وفي الوقت نفسه، كان ومازال الجيش مصدر قلق عميق لرجالات الحكم العسكريين، ورفاق السلاح يشكلون مصدر خوف دائم؛ لأنهم قد يثبون الى سدة الحكم في اية لحظة؛ لذلك عمل كل جنرال، وصل إلى الحكم في هذه البلدان، على آلية لبقائه في الحكم، وضمان ولاء رفاق السلاح والحد من طموحاتهم.
لنأخذ مثالاً الحالتين السورية والمصرية، إذ أنه وبالرغم من اختلاف التجربتين والتباين في أداء المصريين والسوريين بالتحكم بالجيش، كمصدر لإنتاج السلطة ومصدر للانقلاب عليها، فإن الرؤساء المصريين نجحوا بتطويق خطر الجيش، وتحييده عبر آلية وحيدة وهي: ضمان ولاء الضباط في المفاصل الأساسية في وزارة الدفاع ورئاسة الأركان؛ حيث تحولت القوات المسلحة إلى حامٍ لمؤسسة الرئاسة وليس للرئيس، مع بقاء الجيش المصري مصدراً محتملاً لإنتاج السلطة.
أما بالنسبة لسوريا فإن الأمر اختلف إلى حدٍ ما مع وصول الأسد الأب إلى السلطة؛ حيث أدرك الأسد جيداً مدى خطر المؤسسة العسكرية على حكمه، فهو لم يكتف، على شاكلة المصريين، بضمان ولاء الضباط الأمراء في الجيش، وإنما عمد إلى تشكيل شبكة معقدة من الأجهزة الأمنية والمخابراتية، امتدت أذرعها وسلطاتها المباشرة إلى جميع مناحي الحياة في سوريا، بما فيها الجيش نفسه، الذي أُعيد تشكيله وتحديد مهامه بحيث يستحيل أن تتمكن مجموعة من الضباط المناوئين، مهما كان حجمهم، من تشكيل أي خطر حقيقي على الرئيس ونظام حكمه.
ومن هنا يمكن القول بأن الجيش والأجهزة الأمنية تحولوا إلى حامٍ عنيد للرئيس بشخصه وليس لمؤسسة الرئاسة فقط.
ولا بد من الاعتراف بدهاء الأسد الأب ومهاراته بالتحكم بالجيش من خلال اعتماده على مجموعة من الضباط المقربين. ويتجلى هذا الدهاء عبر: بناء وتمكين كافة المؤسسات العسكرية والأمنية المتعددة، ودفعها للعمل الأمني بعقلية التنافس فيما بينها، وعبر نظام مركزي تنتهي فيه جميع الخطوط في مكتب رئيس الجمهورية. الذي كان يتابع كل يوم، وحتى ساعات متأخرة من الليل، مئات التقارير الأمنية، كما ذكر الكاتب البريطاني باترك سيل الذي عاش قريب من الأسد في دمشق لسنوات طويلة.
مع استلام حافظ الأسد للسلطة السياسية والعسكرية غابت الكثير من المفاهيم
جيش من كل السوريين:
لم يعتمد الجيش السوري منذ تأسيسه على عنصر بشري بعينه، حيث كان التجنيد الإجباري يشمل جميع فئات الشعب السوري دون تمييز بين ابن ريف وابن مدينة أو ابن طائفة دون أخرى، لكن التطوع في الجيش كان مختلفاً؛ فقد جذب الجيش متطوعون من الريف السوري، بل يمكن القول أن هؤلاء المتطوعين جاؤوا من ريف محدد أكثر من ريف آخر وكانوا من فئات أقل تديناً وأقل تعليماً ودافعهم للتطوع تحركه عوامل اقتصادية اجتماعية أكثر منها سياسية.
وبالرغم من انزياح بعض قياداته نحو خلق تكتلات معينة ذات أسس سياسية، وأحياناً طائفية، إلا ان بقي للجيش تقاليد وضوابط، ربما تطغى عليها السياسة وتتدخل بها، لكنها لاتصل إلى المساس بالشرف العسكري المتمثل بوحدة وسلامة الوطن وسلامة أبناء الوطن، ولعل هذا الشرف العسكري هو الذي دفع الرئيس أديب الشيشكلي للانسحاب من الحكم بعد حدوث انشقاق عسكري ضده في حلب، رافضاً أن يوجه جندي سوري بندقيته إلى صدر جندي سوري آخر ومقدماً استقالته للشعب السوري ومغادراً البلاد في ربيع عام 1945. لكن مع استلام حافظ الأسد للسلطة السياسية والعسكرية غابت الكثير من المفاهيم وراحت تختفي من الحياة العسكرية شيئاً فشيئاً.
عسكرة المجتمع:
بعد ثورة عام 2011، يعلق أحد المراقبين الأجانب، وهو الباحث السويدي أرون لوند حيث قال: "أن دمشق الياسمين والشعر والحارات القديمة لبست ثوبها العسكري في سوريا الأسد". والحقيقة تقول بأن سوريا أصبحت عسكرية وتم العمل على عسكرة المجتمع منذ وصول حافظ الأسد للسلطة بانقلابه المعروف عام 1970 ضد رفيقه في الحزب والجيش اللواء صلاح جديد الذي كان السبب في عودة حافظ الأسد للجيش بعد أن تم تسريحه من الجيش من قبل الانفصاليين عام 1961.
هناك الكثير من السوريين وعائلاتهم أرتبطت حياتهم بالجيش
كانت سوريا، في عهد الأسد الأب، رائدة في مجال عسكرة المجتمع وربط المجتمع بالسلطة من خلال الجيش وأجهزة الأمن، بحيث أن أي مراقب عادي كان يلاحظ هذه العناوين التي تتبع للجيش وقيادة الأركان، في الكثير من الأماكن في سوريا مثل: رئيس الجمهورية القائد العام للجيش والقوات المسلحة، الجيش وفيالقه وفرقه وألويته، سرايا الدفاع، سرايا الصراع، الحرس الجمهوري، الفرقة الرابعة، مؤسسة تنفيذ الأنشاءات العسكرية، مؤسسة الإسكان العسكرية، الأشغال العسكرية، الخدمات الطبية العسكرية، مؤسسة معامل الدفاع، الوحدات الخاصة، إدارة التدريب الجامعي ومعسكرات التدريب الجامعي، الجامعيون المتطوعون في الجيش (أطباء ومهندسين)، المدنيون المتعاقدون مع الجيش، شُعب التجنيد العسكرية، نادي الضباط، نادي صف الضباط، مدرسة أبناء وبنات الشهداء، مؤسسة نقل الدم والصناعات الطبية، إدارة المشاريع الانتاجية (وهي إحدى إدارات الجيش التي تتبع مباشرة لرئاسة الأركان في الجيش، وهي متخصصة في مجال الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني وتصنيعه)، حتى مديرية الأرصاد الجوية تابعة لوزارة الدفاع، والآن مايُسمّى الدفاع الوطني أو الشبيحة.
من خلال ما تقدم، يمكننا القول بأن هناك الكثير من السوريين وعائلاتهم أرتبطت حياتهم بالجيش من خلال العمل في هذه المؤسسات سابقة الذكر.
لقد نما الجيش العربي السوري بشكل موازٍ لنمو المجتمع السوري وكان لهجرة أبناء الريف إلى المدينة دور مهم في عكس بنية الجيش وتركيبته، فقد طغى العنصر الريفي، وخاصة ريف الساحل، على المتطوعين في الجيش وعلى العاملين في مؤسساته الكثيرة، وهؤلاء يعيشون في المدن مع عائلاتهم، وخاصة في دمشق، حيث أصبحوا مع الزمن، الحاضنة الاجتماعية المهمة لنظام الأسد، ومصدر مهم من مصادر دعمه في حربه الأخيرة ضد الشعب السوري. بل أن تمركزهم حول دمشق جعلهم مفتاح العاصمة.
لا شك في أن بنية القيادة في الجيش السوري في بداية عهد حافظ الأسد كانت، إلى حدٍ ما، من أبناء المدن، على عكس بنية القاعدة التي غلب عليها ابناء الريف، لكن ومع الزمن وعمل (شعبة التنظيم والإدارة وإدارة شؤون الضباط) المؤسستين المسؤولتين عن التنقل والفرز والتعيين والترقية في الجيش، فقد أصبحت بنية القيادة والقاعدة ريفية بالكامل، وخاصة القيادة فهي من ريف محدد هو ريف الساحل.
طبعاً العامل الحاسم والوحيد في عمل شعبة التنظيم والإدارة وإدارة شؤون الضباط، هو الولاء للقائد الأسد وليس للوطن.
بين الوطن والطائفة:
لقد أولى الأسد الأب اهتماماً خاصاً بربط أكبر شريحة ممكنة من المجتمع بالسلطة يذكر حنا بطاطو، في كتابه "فلاحو سوريا"، شريحة الضباط التي اعتمد عليها حافظ الأسد لبناء هذا الهرم الرهيب، قائلاً: "انضم الأسد إلى اللجنة العسكرية عام 1960 وبقي فيها إلى عام 1966 حين أصبح وزيراً للدفاع، عُرف عنه تمرّسه في المؤامرات السياسية أكثر من من تمرسه بالخدمة العسكرية، كان مجرد نقيب في عام 1960 ووضع بين كانون الأول ديسمبر 1961 وآذار مارس 1963 على قائمة المتقاعدين، لكنه رُفّع بسرعة يوم انقلاب 1963 إلى رتبة مقدم، وفي عام 1964 إلى رتبة لواء وعندما اندلعت حرب الأيام الستة في عام 1967 كان مايزال غراً عسكرياً، ولم يكن يملك المؤهلات الكافية ليكون الرأس المدبر للقوات المسلحة". ويتابع بطاطو: "كان من العلويين مالايقل عن 61,3 في المئة من الضباط الذين انتقتهم يد الأسد بين عام 1970 و1997 ليحتلوا المواقع الرئيسية في القوات المسلحة والتشكيلات العسكرية النخبوية وأجهزة الأمن والاستخبارات، وكان ثمانية من هؤلاء من عشيرته الكلبية، وأربعة من عشيرة زوجته، الحدادين، وكان سبعة من بين هؤلاء الأثني عشرة من أقرباء الأسد المباشرين بالدم والزواج".
لقد أولى الأسد الأب اهتماماً خاصاً بربط أكبر شريحة ممكنة من المجتمع بالسلطة وذلك من خلال الجيش لذلك شجع أبناء الريف، وخاصة ريف الساحل، على التطوع بالجيش لقاء عدة امتيازات تُمنح لهم، مثل السكن بأجور زهيدة والطبابة المجانية وراتب مقبول والسماح لهم، فيما بعد، بالسيطرة على أراضٍ بالقوة، وبناء مساكن لهم ولعائلاتهم على هذه الأراضي، كما حصل في مزة 86 ومساكن قدسيا ومساكن الحرس الجمهوري وعش الورور وغيرها، كان لإنشاء هذه الأحياء العشوائية دور مهم في ارتباط هؤلاء الناس وأبناءهم بالسلطة، فهم يعرفون أنهم اغتصبوا هذه الأرض بالقوة ويعلمون أن السلطة الأسدية هي من تحميهم، لذلك كان الدفاع عن سلطة الأسد هو في واقع الأمر دفاع عن مصالحهم ودفاع عن أبنائهم الذين ولدوا في هذه الأحياء ولا يريدون العودة إلى قراهم الفقيرة والبعيدة.
ولابد من الاعتراف بأن نمو الجيش وازدياد تعداده، ساهم بشكل أو بآخر في نمو البلدات والمدن التي كانت تحيط بأماكن تواجده عمرانياً وسكانياً واقتصادياً واجتماعياً، مثل بلدة قطنا والكسوة وازرع والضمير وغيرها من المناطق التي غصت بهؤلاء المتطوعين وعائلاتهم.
الجيش هو المَثَل الأعلى للحياة العامة:
"والله إذا لم تسجله رشوة لعلي زيود لن أوقع لك ولن تمشي معاملتك" فرض الجيش نفسه على المجتمع السوري لعقود طويلة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، حتى أن المؤسسات المدنية أصبحت تُدار بعقلية عسكرية وهي لغة الأوامر، أي نفذ ثم اعترض، وكان معظم محافظو المدن الرئيسية (عدا محافظ العاصمة دمشق)، من الضباط الذين لا يعرفون إلا لغة الأوامر، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، العميد علي زيود، محافظ ريف دمشق الذي ذاع صيته كثيراً، والرائد حسين بطاح محافظ حلب سابقاً، والعميد أحمد حسين دياب محافظ حلب الآن، والعميد أحمد الشيخ محافظ اللاذقية سابقاً والقنيطرة حالياً، والعميد ابراهيم خضر السالم محافظ اللاذقية حالياً وكان قائد شرطة حلب سابقاً، وغيرهم كثيرون ممن أداروا مدناً سورية بطريقة عسكرية صارمة، هذا عدا عن الفساد الذي طالهم جميعاً.
لكن أبرز الفاسدين كان العميد علي زيود الذي كان له الدور الأبرز في القضاء على غوطة دمشق واستبدالها بكتل اسمنتية مقابل رشاوي، وقد انتشرت حكاية على لسان معظم السوريين عن فساده ووقاحته في استلام الرشاوى، تقول الحكاية: (أن مقاولاً كبيراً دخل بصحبة ابنه الشاب على العميد علي زيود كي يحصل على توقيعه مقابل رشوى كبيرة، سأل الشاب أبيه المقاول: تحت أي بند نسجل المبلغ المدفوع؟ أجابه والدة سجله تحت بند مصاريف إدارية. لكن العميد علي زيود قال وبكل هدوء وبصوت لا يخلو من الثقة: سجل المبلغ رشوة لعلي زيود وأعطني الورقة كي أوقع لك، حاول الأب الاعتذار متذرعاً بأن ابنه الشاب غر ولا يعرف بالأصول، أجابه علي زيود، بلهجة حاسمة ولا تخلو من التهديد: "والله إذا لم تسجله رشوة لعلي زيود لن أوقع لك ولن تمشي معاملتك").
الجيش وسلطة الحكم:
يمكننا القول، وبكل ثقة، أن الجيش بتركيبته المعقدة، هو المسؤل الأول عن توريث الحكم في سوريا من الأب إلى الابن، عملية التوريث تلك التي رعاها وقادها وزير الدفاع الأبدي في عهد الأسد الأب، العماد مصطفى طلاس. وما كان له أن يقوم بغير ذلك، أعني طلاس، لأن الجيش مُسيطر عليه من قبل الأجهزة الأمنية وكبار الضباط الذين يعرفهم طلاس جيداً، وأي لعب معهم سيكون رأسه ورؤوس أبنائه ثمناً لذلك، لذلك آثر السلامة وقاد عملية التوريث بكل نجاح.
وللتدليل على أن طلاس لم يكن يملك من أمره شيئاً، سأروي حادثة كنت، شاهداً عليها، تؤكد ذلك: (في ثمانينات القرن الماضي وفي كلية الشؤن الإدارية بحلب، رسب أربعة طلاب ضباط في صفهم نتيجة كسلهم وكثرة مخالفاتهم الانضباطية، وذلك بناءً على أمر إداري من العماد علي أصلان، رئيس الأركان، الذي أمر بالتركيز على الانضباط وعدم التهاون بذلك، وهذا أمر لم يكن مألوفاً في الكليات العسكرية حيث كان طلاب الضباط ينجحون اوتوماتيكياً، عملاً بالقاعدة المعروفة: الصفر في الجيش ستون درجة. قام الطلاب الأربعة الراسبون بزيارة أهل زوجة مصطفى طلاس والتقوا بحماته، وهي من بيت الجابري العائلة الحلبية المشهورة، وقدموا طلب استرحام لوزير الدفاع، وفعلاً اتصلت حماته به وطلبت منه مساعدة الطلاب. في اليوم التالي وصل كتاب من طلاس إلى مدير كلية الشؤون الإدارية يأمر بنجاح الطلاب الأربعة. وبعد عدة أيام وصل الخبر إلى رئيس الأركان علي أصلان الذي أرسل أمر قاطع ونهائي برسوب الطلاب وفعلاً رسبوا. ساد هرج ومرج بين الضباط وطلاب الضباط في الكلية ولم يتوانى أي منهم من وصف وزير الدفاع طلاس بـ"الطرطور" (الشحص الهزيل).
دور الشعب السوري في لعبة السلطة يقتصر على الهتاف بحياة قائد الأمة وملهمها
انتقال منظومة الولاء والفساد:
نزلوا وحوش عالساحة … حيّوا أسد القرداحة
ولعيونك يابو سليمان … بدنا نحرر الجولان
هذه العبارات وغيرها، التي كنّا نرددها في الكلية الحربية عندما كنّا طلاب ضباط (وهي منتشرة في كافة مراكز تدريب الجيش)، كانت تعزز في عقولنا، نحن الشباب المتحمّس، أن الرئيس هو نوع من الآلهة وأننا كلنا فداء هذا القائد الملهم الذي لن تجود سوريا بمثله، وأننا سنحرر الجولان كرمى عيون هذا القائد الذي بدونه لاقيمة للوطن. أما الشعارات المتعلقة بالجيش والوطن فقد تم نسيانها مع الزمن، لتحل محلها شعارات تمجد شخص الرئيس وتجعل من الجيش حرس شخصي (لسيادته).
مع وصول بشار الأسد للسلطة عبر عملية التوريث المعروفة، لم تحدث تغيرات مهمة على صعيد تأليه القائد وفرادته في قيادة البلاد والعباد، واستمرت السلطة في اعتبار الشعب السوري عبارة عن جماهير وليسوا مواطنون، وأن دور الشعب السوري في لعبة السلطة يقتصر على الهتاف بحياة قائد الأمة وملهمها، كذلك استمرت الاسطوانة المشروخة والتي تشيد بـ "العطاءات والمكرمات" التي يتصدق بها الرئيس على الشعب. بحيث ينحصر دور الشعب على تقبّل هذه "العطاءات" مقابل أن يقدم الطاعة والولاء لناشر "الخير والمحبة في الأرض السورية".
أننا نقف إزاء ثورة مجتمع شديد التركيب والتعقيد تفجّرت ضد نظام استبدادي قمعي يقوم على نمط قاسٍ من القمع الأمني أما على صعيد الهيكل التنظيمي الرسمي للجيش فلم تحدث أي متغيرات مهمة، فقد استمر الضباط، وخاصة الموالون منهم، في حصد السلطة والموارد بشكل زاد من الفساد وقلص من القدرة القتالية للجيش، فقد كان كبار الضباط، في عهد الأسد الأب يتحالفون مع كبار التجار على مبدأ الحماية مقابل المال، أما في عهد الأبن فقد أصبح هؤلاء الضباط تجاراً، وأصبحوا ينافسون في السوق كبار التجار.
وفي ظل انعدام القيم الانسانية والوطنية أصبح هؤلاء الضباط عمالقة اقتصاد وزادوا من تمسكهم وارتباطهم بسلطة الأسد. إضافة إلى ظاهرة يعرفها كل السوريون وهي ظاهرة (التفييش) وهي ظاهرة تسمح للضباط بمساومة العائلات الميسورة على الخدمة الالزامية لأبنائهم مقابل المال، حيث أصبحت الخدمة الالزامية عبارة عن عملية سمسرة بين الضباط والعائلات الميسورة، على مرأى ومسمع من "القيادة الحكيمة". كل هذه التجاوزات زادت من التصاق هؤلاء المنتفعين بالنظام وزادت الشريحة الاجتماعية المرتبطة بالفساد.
يقول عزمي بشارة، في كتابه "سوريا درب الآلام نحو الحرية": "أننا نقف إزاء ثورة مجتمع شديد التركيب والتعقيد تفجّرت ضد نظام استبدادي قمعي يقوم على نمط قاسٍ من القمع الأمني، وعلى تداخل الأمن والسياسة والاقتصاد، مولداً فساداً منتشراً من القمة إلى القاعدة، الفساد في سوريا ليس استثناء يحاربه النظام أو يتساهل معه، بل هو القاعدة، إنه النظام".
أما ظاهرة ما يُسمى "الدفاع الوطني"، أو كما يُسميها السوريون "الشبيحة أو العفيشة"، فقد انتشرت هذه الظاهرة بتشجيع ودعم النظام الأسدي، على كامل التراب السوري، وقد سمحت هذه الظاهرة لعائلات مغمورة بأن تحجز لها مكان في عجلة سوق المال والاقتصاد والقوة، واستطاعت هذه الظاهرة بأن تجذب شريحة اجتماعية كبيرة، وخاصة من الأقليات، إلى حضن النظام وأصبحت من أشرس المدافعين عن النظام وعن المكاسب التي حققتها على مدار سنوات الحرب الطويلة في سوريا.
في النهاية يمكننا القول بأن علاقة النظام بالمجتمع السوري هي علاقة مركبة ومعقدة، وقد تم استخدام الجيش السوري ومؤسساته لخدمة هذه العلاقة، من خلال ربط مصالح شريحة ليست قليلة من المجتمع السوري بأكبر قوة فعّالة في البلد. حيث استطاع إقناعهم بأن مصالحهم، بل وحتى مصيرهم، مرتبط بوجود السلطة الأسدية! كما استطاع هذا النظام الاستفادة حتى من منظومة الفساد المنتشرة في البلاد وجيّرها لخدمته في حربه من أجل البقاء في السلطة.
كتب هذا التقرير لمجلة زينيت الضابط والسجين السياسي السابق بسّام الجوهر.