عائلة الأسد التي حكمت سوريا قرابة نصف قرن تنحدر من الطائفة العلوية، مثل الكثير من أهمّ أركان النظام السوري الأمنيين والعسكريين. لذا ليس من المستغرب أن يشغَل العلويون حيّزاً واسعاً من النقاشات العامة خلال سنوات الصراع السوري.
غير أنّ كثيراً من النقاشات غلب عليها الطابع الأيديولوجي حيناً والعاطفي الانفعالي أحياناً، فضلاً عن التوظيف السياسي للمواقف المتعلقة بهذا الموضوع. فهي، على الأرجح، لا تصدر عن تفكير عقلاني موضوعي بقدر ما هي لحظيّة وتبسيطيّة، إذ تبالغ هنا وتختزل هناك.
كل ذلك لم ينتج سوى المزيد من التشويش والتجهيل، لا سيما من قبل أولئك الذين يكرّسون، خطأً أو عن عمد، صورةً تُماهي بالمطلق ما بين العلويين والنظام، سواء من بعض منتقدي الطائفة أو لدى قسم من المنتمين لها أو المدافعين عنها، حتى كاد العلويون أن يرتبطوا في أذهان البعض، وجوداً وعدماً، بنظام الأسد. فهل هذه هي الحقيقة؟
أدوار وطنية وسياسية
خلافاً لروايات روّجها النظام في الأوساط العلوية بغرض حشد الدعم والولاء، تقول إنّ حافظ الأسد هو من جعل للعلويين مكانة بعدما كانوا حبيسي جبالهم وقراهم، فإن من يدرس وقائع التاريخ السوري وأحداثه يجد أنها تثبت العكس. لقد كان لهم دورهم في التاريخ المعاصر لسوريا منذ نشوئها بحدودها الحالية، بل إنّه باستثناء أصحاب الحظوة من كبار رجال النظام وأعوانه والمرتبطين بهم، فالعلويون كبقية السوريين، لم يكونوا في أفضل أيامهم تحت الحكم الأسدي.
خلال الانتداب على سوريا، واجه الفرنسيون مقاومة مسلّحة حيناً، وسياسيّة أغلب الأحيان. تجلت المقاومة المسلّحة، بصورة أساسيّة، في الثورة السورية الكبرى (1925-1927) بقيادة سلطان باشا الأطرش، سبقتها مرحلة أولى (1919-1921)، في مناطق الساحل السوري ذات الغالبية العلوية، بقيادة الشيخ صالح العلي، حيث تمكن العلويون من صدّ الجيش الفرنسي ومنعه من احتلال جبالهم لعامين.
بعد ذلك قسم الفرنسيون البلاد على أساس طائفي ومذهبي لتسهيل السيطرة عليها. وقام المفوّض السامي الجنرال غورو، بتجزئة سوريا فأنشأ دولة لبنان الكبير (1 أيلول/ سبتمبر 1920) بغالبية طفيفة مسيحية، وجزأ الباقي إلى دويلات: دولة دمشق ودولة حلب للسنّة، وحكومة خاصة بجبل الدروز، إضافة إلى حكومة العلويين.
رفض معظم العلويين فكرة الانفصال عن سوريا، فالتيار الوطني الإندماجي في أوساطهم كان أكبر وأقوى بكثير من التيار الإنفصالي، خلافاً لما حاولت فئات من المعارضة السورية ترويجه في السنوات القليلة الماضية، بالتركيز على وثيقة لوجهاء علويين من المتعاونين مع فرنسا طالبوا باستقلال "دولة العلويين" تحت الانتداب الفرنسي، دون أن تلقى دعواتهم استجابة لدى الطائفة. بل إنّ بعض "الانفصاليين" أنفسهم عادوا وانضمّوا فيما بعد إلى الأصوات العلويّة المطالبة بوحدة البلاد واستقلالها، واستقلّت سوريا موحّدة.
على أي حال، شكّلت فترة الإنتداب مرحلة جديدة للعلويين أفضل نسبيّاً مما سبقها من قرون مظلمة. فقد اعترف الفرنسيون رسميّاً بهم كمذهب ديني وكيان سياسي، ما أخرجهم من عزلة وركود داما قروناً، ووضعهم مجدّداً على الخريطة السوريّة. وكانت إحدى أدوات الإغراء الفرنسية تجنيد شباب العلويين كغيرهم من أبناء الأقليات، في قوات المشرق الخاصة، التي أنشئت عام 1921، تحت إمرة ضباط فرنسيين. انضمّ إليها العلويون، مثلهم في ذلك مثل الشركس والدروز، لانعدام أي فرصة لعمل آخر على الأغلب. وأدّى ذلك إلى تأسيس تقليد عسكري أصبح مركزيّاً في صعود الطائفة في وقت لاحق، إذ تصاعد نفوذ الضباط العلويين ونمت التجربة العسكرية في أوساط شباب الطائفة.
سياسة الانتداب في ديمقراطية التعليم ونشر المدارس الحكومية ببرامج موحدة، كان لها دور هامّ في منع انتشار التعليم المذهبي الطائفي كما في لبنان. هذا ساهم في انتشار التعليم بين أبناء العلويين، مما ترك أثره في اهتمام شبابهم بالشؤون العامة وأمور الثقافة والسياسة، فانخرطت أعداد كبيرة منهم في الأحزاب والحركات السياسية التي ظهرت خلال الانتداب، كالحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث وغيرها.
ومع تصاعد دورهم وحجمهم نسبيّاً في الجيش وبعض الأحزاب، تنامت أدوار عدد متزايد منهم في الحياة السياسية، وشاركوا في مختلف أطوارها وتحوّلاتها منذ استقلال سوريا، فكان منهم نوّاب ووزراء، فضلاً عن اشتراك ضبّاط علويين في الانقلابات العسكرية المختلفة التي شهدتها البلاد.
علويون في السلطة
عسكرة الحياة السياسية في سوريا، الناجمة عن التدخّل المتكرّر للجيش في السياسة وتغلغل بعض الأحزاب الأيديولوجية في صفوفه، ثم النمو الكبير لدور المخابرات في الحكم ابتداءً من عهد الوحدة السورية المصرية، واستمراره بعد الانفصال، كلّ ذلك أفضى في المحصلة إلى استحواذ العسكر على السلطة، لا سيما بعد انقلاب 8 آذار/ مارس 1963. ولأن ضبّاطاً علويين كانوا من بين قادة الانقلاب، فقد باتوا جزءاً من نظام الحكم الجديد.
بعد الانقلاب مباشرة ظهرت خلافات حادّة بين الحكام الجدد، على أسس حزبية في البداية، كالخلاف بين الضباط البعثيين وزملائهم الناصريين، ثم إقصاء شركاء الانقلاب من الضباط المستقلين، لينتهي الأمر بسيطرة حزب البعث وضباطه. ثم لتبدأ الصراعات على السلطة ضمن حزب البعث نفسه، بين العسكريين والمدنيين، وكذلك بين تيار "يساري" في الحزب وآخر وُصِفَ بأنه "يميني"، ولم تخلُ صراعات أجنحة الحزب المختلفة من اصطفافات طائفية حول عدد من مراكز القوى، سواء في هيئاته المدنية أو بين العسكريين.
غير أنّه خلال الخلافات البعثية تلك لم يكن الفاعلون العلويون من الضباط والحزبيين على موقف واحد، بل كانوا موزّعين على ضفتي الانقسام، ولعبوا أدواراً رئيسية كلّ إلى جانب فريقه خلال الانقلابات التي نفذها البعثيون ضدّ بعضهم بعضاً، وصولاً إلى خروج حافظ الأسد منتصراً على رفاقه السابقين الذين ألقى بمعظمهم في السجن ونفى آخرين، وكان أبرزهم من العلويين. ليؤسس بعدها نظاماً للحكم على مقاسه ويمسك بالسلطة منفرداً، ابتداءً من عام 1970 وحتى وفاته في 10 حزيران/ يونيو 2000، حيث ورث بشار الأسد السلطة عن أبيه.
خلال تلك السنوات، شهد النظام الذي أسسه الأسد الأب تحوّلات وصراعات وإعادة ترتيب للأدوار ومراكز القوى، دون أن يغيّر ذلك من جوهره كنظام شمولي أشبه بنُظم "الديمقراطيّات الشعبيّة" ذات "الحزب الواحد" و"القائد الأوحد"، التي ظهرت في أوروبّا الشرقيّة بُعيد الحرب العالمية الثانيّة، مع خصائص أخرى انفرد بها.
وإذ اعتمد الأسد على أفراد عائلته وأيضاً على بعض المقرّبين منه من طائفته، إلى جانب أعوان مخلصين وشبكات سلطوية واسعة عابرة للطوائف، فإنّ إمساكه بالحكم وتعيين شخصيات علوية في مفاصل السلطة الأمنية خصوصاً، لا يعني أن "العلويين يحكمون سوريا"، وفق ما يحلو لبعضهم القول. وإنّ أعداداً كبيرة من الشابات والشبان العلويين، نشطوا في الأحزاب المعارضة لنظام الأسد، اليساريّة منها والقوميّة بشكل خاص، مثل حزب العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي- المكتب السياسي، حزب البعث العربي الديمقراطي وغيرها، وقد غصّت بهم السجون والمعتقلات، وقد قضى كثيرون منهم تحت التعذيب.
وبالرغم من الأفكار الشائعة عن وجود "طبقة علوية ثرية وصاحبة امتيازات تسيطر على سوريا"، فإن النظام الحالي لا يكاد يقدم فائدة ملموسة تُذكر لمعظم العلويين. والحقيقة أنّه منذ توفير الأسد الأب للخدمات الأساسية في السبعينيات والثمانينيات، لم تتطور معظم القرى العلوية سوى بمقدار ضئيل، باستثناء القرداحة، موطن عائلة الأسد. وإنّ الريف العلوي بقي من دون أي إنماء؛ والكثير من السكان التحقوا بالجيش لغياب أي بديل اقتصادي فعلي. فالعلويون العاديون نادرا ما استفادوا من الفساد، في أعلى هرم النظام، وخاصة تحت حكم بشار الأسد.
عسكرة الطائفة
كأي نظام عسكري انقلابي مفتقر للشرعية الدستورية، اعتمد نظام الأسد بشكل متزايد على الجيش والأجهزة الأمنية لتوطيد حكمه. ولضمان أعلى قدر من الولاء لجأ رموز النظام إلى العلاقات العشائرية والطائفية والمناطقية لرفد أجهزة النظام القمعية بالكادر البشري، وكان للعلويين نصيب كبير من تلك السياسة، فكان لها عواقب وخيمة لم ينتهوا من دفع أثمانها حتى اللحظة.
لقد عمل النظام على عسكرة العلويين من خلال دفع غالبية شبابهم إلى التطوّع في الجيش والفروع الأمنية عبر وسائل وأساليب مختلفة يضيق المجال عن ذكرها. ساهم ذلك في انخفاض مستوى التعليم داخل الطائفة وتراجع الاهتمام بالعلم والثقافة نسبياً. وبات قسم كبير من العلويين معبّئين ضمن قطعات عسكرية تقوم على الولاء المطلق للنظام وحمايته. وعند اندلاع الثورة وجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة الشعب الثائر، يقومون بما روّضوا ودُرّبوا عليه لسنوات: حماية النظام. المفارقة أنّهم يدافعون عن نظام أذلّهم وجعل منهم طبقة فقيرة ممتهنة يحتقرها المجتمع، فأغلبهم هجروا بلداتهم وقراهم ليعيشوا في مناطق عشوائية بائسة حول دمشق والمدن الكبرى.
خلاصة
استناداً إلى ما سبق، يمكن القول: إنّ العلويين، أولاً وآخراً فئة من السوريين، متعددون ومتنوعون كغيرهم من أتباع المذاهب والأديان المنتشرة في سوريا. فهم جزء من تاريخ هذه البلاد وإسهامهم في شؤونها، سلبياً كان أم إيجابياً، لم يبدأ مع هذا النظام ولن ينتهي معه. وإنّ كل حديث عن العلويين يتجاهل هذه الحقيقة ويتناولهم من زاوية خاصّة، هو حديث يفتقر إلى الدقة والموضوعية، سواء جاء من "المدافعين" عن العلويين، تحت عنوان "حماية الأقليات" أو كامتداد لمواقف تدعم الأسد فتدمج العلويين بنظامه ليكون الدفاع عنهم دفاعاً عنه، أو صدر عن جهات تهاجم العلويين وتدين اصطفافهم مع النظام، فتركّز على تورّط أعداد منهم في انتهاكات ترتكبها قواته.
إنّ كلتا الحالتين تكملان ما بدأه النظام، عندما وضع العلويين في مواجهة مجتمعهم السوري، عبر سلسلة من التدابير هدفت إلى إقناعهم باستحالة وجود أو قيام روابط تاريخية أو طبيعية تشدّهم بطريقة إيجابية إلى أبناء وطنهم، وربطهم بنظام الأسد بشكل يلغي استقلاليتهم ومواطنيتهم. لن يكون مجدياً، وليس من المنصف أيضاً، أن يُختصر العلويون أو سواهم من فئات المجتمع السوري وينظر إليهم فقط من زاوية مجريات الصراع الحالي وبدلالة تعقيداته، ولهذا حديث آخر.