فساد، تدهور اقتصادي، تدهور صحي وعبثية البرلمان التونسي، تجبر التونسيين على القبول بقرار الرئيس التونسي، حتى ولو كانت إنقلاباً على الديمقراطية.
مثل معظم الشباب في العالم العربي، لا يبالي الشباب التونسي بالحياة السياسية سواء في بلادهم او في مكان اخر. هذه اللامبالاة ليست وليدة اليوم، ولكنها نتاج سياسات قديمة وخيبات جديدة، ولدّت لديهم نوعا من التجاهل والبرود تجاه ما يحدث في المشهد السياسي التونسي. ورغم انهم لعبوا دورا رئيسيا في الثورة التونسية الا ان الإخفاقات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية المتتالية التي رافقت التحول الديمقراطي في تونس عمقت من لامبالاتهم واعادتهم الى الركود.
أدى الصعود المفاجئ لقيس سعيد وترشحه للانتخابات الرئاسية الى قلب المعادلة بالنسبة للكثير من التونسيين. نافس سعيد وهو أستاذ قانون دستوري متقاعد وابن حي المنيهلة الشعبي بتونس العاصمة، قطب الاعلام نبيل القروي الذي كان يقبع في السجن اثناء الانتخابات بتهمة غسيل الأموال والاحتيال الضريبي. وترشحه للانتخابات أعاد الشباب التونسي من جديد للحياة السياسية ولصناديق الاقتراع لإيمانهم بجدية الرجل ونظافة يده وصدقه، علقوا أملهم اعليه ووثقوا ان التغيير القادم سيكون خلال فترة حكمه وعلى يده.
وبالفعل فاز قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية بنسبة تجاوزت 72٪ بحسب الهيئة العليا للانتخابات وبتصويت 2.77 مليون ناخب له، اغلبهم من الشباب اذ تمثل الفئة العمرية ما بين 18 و 25 سنة النسبة الأكبر من المصوتين لسعيد بحسب استطلاع أجرته مؤسسة سيغما كونساي.
بعد فوز قيس سعيد بالانتخابات ظل التونسيون ينتظرون التغيير الموعود بمكافحة الفساد، والقضاء على المحسوبية وتحقيق العدالة والتنمية للمناطق الداخلية المهمشة التي يعاني أبناؤها من الفقر والبطالة منذ سنوات عديدة. ومع مرور أكثر من سنة ونصف على تولي سعيد مقاليد الحكم دون أي تغيير يذكر، بل ازداد الوضع سوءا خاصة مع انتشار جائحة كورونا التي عطلت النشاط الاقتصادي، وساهمت في ارتفاع معدل البطالة وتقليص الدخل في بلد يعاني من الأساس من اقتصاد متضعضع ومنهار.
بدأ الإحساس بالخيبة واليأس والفشل يتغلغل الى قلوب التونسيين من جديد. ففي الواقع مواقفه المرتجلة ووعدوه الفارغة وخطاباته عن مؤامرات تحاك داخليا وخارجيا ضد تونس غامضة، دون الإفصاح عن أي تفاصيل حول من يقف ورائها وماهية هذه المؤامرات، أربكت التونسيين الذين بدأوا يشككون في قدرته على قيادة الدولة ويراجعون خياراتهم السياسية مرة أخرى. كما ان النزاعات السياسية في البرلمان ومشاهد الكر والفر والعنف والمشاجرات بين النواب التي يشاهدها التونسيون تحت قبة البرلمان اثارت اشمئزازهم من الحياة السياسية ومن السياسيين في بلادهم. ولكن رغم تراجع شعبية الرئيس قيس سعيد لدى التونسيين، ظلّ يتصدر نوايا التصويت ب 53.3٪ حسب استطلاع رأي أجرته مؤسسة سيغما كونساي في شهر مارس/ آذار 2021.
حراك 25 جويلية/تموز 2021:
تعددت في شهر جويلية/تموز دعوات للخروج في مظاهرات عارمة يوم 25 منه، والمصادف لعيد الجمهورية في تونس، للمطالبة بطرد الحكومة التي اجمع الكل على فشلها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. هذا الحراك الشبابي الشعبي والتلقائي لقي دعم واستحسان أطياف من المجتمع المدني وبعض الأطراف السياسية التي نادت أيضا بالتعبئة للخروج للشارع والمطالبة بالتغيير. ورغم انتشار وباء كورونا في البلد ومخاوف العدوى ودرجات الحرارة التي تجاوزت ال 45 درجة في اغلب ولايات الجمهورية فقد استجاب العديد من الشباب التونسي لنداء التظاهر ونزل مئات المحتجين إلى الشوارع في كل المدن الرئيسية للمطالبة بإسقاط الحكومة التي فشلت مرارا وتكرار في اخراج البلاد من الازمات الخانقة التي تمر بها. ووفقا لمقاطع فيديو تم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي، فقد حمل المحتجون أعلام تونس ورددوا هتافات تطالب باستقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي وحل البرلمان. وهتفوا بشعارات مثل "الشعب يريد اسقاط النظام"، لا خوف لا رعب السلطة في يد الشعب"، "لا لا للتعويضات يا حكومة الفساد" كما أظهرت مقاطع أخرى اقتحام المتظاهرين لمكاتب حزب النهضة وهو الحزب الإسلامي الأكبر في البرلمان. كما قاموا بإضرام النار في أحد مقار الحزب وبحرق علمه واستبداله بالعلم التونسي في رمزية ومشهد يذكر بثورة 14 يناير وحرق مقرات حزب التجمع الدستوري الديمقراطي.
مفاجأة غير متوقعة:
ليلة الاحد 25 تموز كان خطاب الرئيس قيس سعيد يبث مباشرة على صفحة الرئاسة التونسية في موقع فيسبوك في حين كانت التلفزة الوطنية تعرض مسلسلا ترفيهيا. انقطع بث المسلسل وبدا بث الخطاب لحظات بعد اعلان الرئيس تجميد البرلمان. كان الخطاب غير متوقع وفاجأ جميع التونسيين دون استثناء. أعلن الرئيس استناده على الفصل 80 من الدستور التونسي الذي يخيل لرئيس الجمهورية في صورة وجود خطر داهم اتخاذ إجراءات استثنائية لتسيير البلاد. جملة القرارات "الاستثنائية" التي اتخذها الرئيس التونسي بشأن تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإعفاء رئيس الوزراء هشام المشيشي وتولي السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس وزراء جديد، لاقت ترحيب فئة كبيرة من الشعب التونسي الذين عبروا عن فرحتهم بالنزول الى الشوارع ليلا رغم فرض حظر التجول في كامل ولايات الجمهورية التونسية في إطار الحد من انتشار وباء كورونا. أجواء احتفالية عاشها الشباب التونسي في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة وفي ولايات أخرى وحتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعبيرا عن دعمهم لقرارات الرئيس ومساندتهم له في هذه الفترة الحساسة من تاريخ تونس. لكن خصومه في البرلمان اتهموه على الفور بالقيام بانقلاب، فيما شكك البعض الآخر في دستورية هذه الخطوة.
وبحسب استطلاع للراي اجراه معهد امرود كنسلتنغ لاستطلاعات الرأي ما بين يومي 26 و28 تموز فان 84٪ من التونسيين يساندون قرار رئيس الجمهورية بإقالة المشيشي و86٪ يساندون تجميد عمل البرلمان.
انقلاب على الشرعية او استجابة لمطالب الشعب؟
ان الخراب الذي وصلت اليه تونس اليوم والأزمات الخانقة التي تعيشها على جميع الأصعدة والعجز الفادح عن إيجاد حلول للوضع المتردي الذي يتخبط فيه التونسيون والدولة منذ ما لا يقل عن عقد من الزمن دفع بالشعب للخروج والمطالبة بتغيير جذري يخرج تونس من وضعها الحالي املا في مستقبل أفضل. كما ان العشر سنوات التي سيطرت فيها حركة النهضة على الحكم في اطار تحالفات سياسية اقل ما يقال عنها انها فاشلة وما شهده الشعب التونسي من فساد وتدمير للاقتصاد وغلاء في الأسعار ومهازل نواب البرلمان تجبر التونسيين علي القبول بقرارات الرئيس حتى ولو كانت انقلابا كما وصفه البعض. اراء اغلب التونسيين التي شاركوها في صفحات التواصل الاجتماعي تشير الى انهم يرفضون الخوض في مدى دستورية هذه القرارات فالأهم بالنسبة لهم انها استجابة لمطالب شعب ضاق ذرعاً بنخبته السياسية.
وهي في نظرهم قرارات استثنائية تعبر عن التقاء إرادة الشعب برغبة الرئيس في تصحيح المسار.
من النادر ان يفرح مواطنون بتجميد عمل برلمانهم المنتخب من قبلهم، لكن غالبية التونسيين ثاروا على نخبتهم السياسية وساندوا قرارات رئيسهم للانقلاب على الوضع المأساوي التي وصلت اليه تونس بعد عشر سنوات من ثورة الياسمين.
لا يزال الوقت مبكرا لمعرفة نتيجة هذه القرارات ومدى تأثيرها على الوضع العام في تونس وبغض النظر عن مدى دستوريتها وكيف ستسير الأمور مستقبلا في هذا البلد الذي لا يزال يحمل حلم الربيع العربي؛ لقد اظهر التونسيون للعالم مرة أخرى انهم يريدون التغيير وان الشباب التونسي المنسي منذ 2011 نجح حيث أخفقت كل المعارضات.