أزمات منسية

زينيت: في وقت سابق من هذا العام قمت بالتقاط الصور داخل ليبيا، في مخيمات المهاجرين من جملة أماكن أخرى. ما هي التحديات التي واجهتك في هذا المشروع؟ وما هو نوع الصور التي كنت تأمل في التقاطها؟

غيوم بينيت: لا تزال ليبيا غارقة في حالة من الفوضى. وتمتلك الفصائل المسلحة القدرة على السيطرة على مخيمات المهاجرين لأن بإمكانهم جمع الكثير من المال فيها. فهم يسلبون المهاجرين أموالهم بطرق مختلفة، فعلى سبيل المثال، يسمحون بتحرير أشخاص إذا ما دفعت أسرهم فدية. بالإضافة إلى ذلك، "يُستأجر" المهاجرون للعمل في الخارج، في شركات البناء مثلاً، من دون الحصول على أي أجور

"لا مال، لا سقف، لا وقت في وسائل الإعلام ... وهذا يفسر سبب بقاء الكثير من هذه المآسي غير موثّقة".

من الصعب حقاً الحصول على التراخيص المتعددة اللازمة لدخول المخيم، فلا بدّ من الحصول على إذن من جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية (DCIM)، وآخر من الميليشيات، وآخر من مدراء المخيمات

وعند وصولك إلى مثل هذه الأماكن، جلّ ما ترغب فيه هو التقاط المشهد العفوي. تمضي قدماً خطوة بخطوة وتتوغل بشكل أعمق إلى الداخل، إلى أن تلتقي بشخص ما، تلتقط صورته، وتستمع إلى قصته. لم يكن لدي فكرة مسبقة قبل البدء بهذا العمل.

ما الأحاسيس التي اختلجتك عند التقاط هذه الصور؟ ما الانطباعات الأكثر وضوحاً؟

الجزء الأصعب كان العمل بين نظرات المهاجرين التي تراقبك وتلاحق تحركاتك من جهة، إذ لا يسمح لهم بالتحدث إليك ولا يسمح لك بالتحدث إليهم، ولكنهم يحاولون ويهمسون ويطلبون المساعدة، ومن جهة أخرى، تتربّص بك نظرات الحراس الفاحصة. تجد نفسك عالقاً بين الاثنين، وقدرتك على القيام بشيء ما محدودة. لكن قد تكون أنت الفرصة الوحيدة التي يملكها هؤلاء الناس لمعرفة ما يحدث هناك. أشعر أن لدي مسؤولية لنقل قصصهم. وفي الوقت نفسه أشعر بأني عاجز، لا حول لي ولا قوة، لأنني لن أستطيع القيام بأي شيء على الإطلاق لمساعدة هؤلاء الأشخاص الذين التقيت بهم.

همست في أذني إحدى النساء، كانت هناك لمدة تسعة أشهر، بعض الأسماء التي سميت بها منذ مغادرتها غينيا. اسم جديد في كل بلد مرّت به: بينتا، ميريام، نبيلة..

صاحبة الوشاح الوردي

"أنا لا أعرف اسمها أو حتى إن كانت لا تزال على قيد الحياة. منعني الحراس من التحدث إليها. كانت بين مجموعة من النساء المحتجزات في ساحة مركز اعتقال على بعد حوالى 60 كيلومتراً غربي العاصمة طرابلس بالقرب من الساحل. وبينما كن تحاولن الوصول إلى أوروبا، اعترض طريقهن في البحر المتوسط خفر السواحل الليبي وأعادوهن إلى مركز الاحتجاز"،هذا ما كتبه بينيت بعد زيارته لمركز احتجاز مهاجرين في ليبيا.

" العديد من النساء كنّ تعانين من حروق شديدة في أرجلهن. فقد تناثرت مياه البحر على جانبي الزورق المطاطي، وتفاعلت مع الوقود الذي امتد على أرضية القارب حيث كانت النساء جالسات. وأدّى التعرض المطوّل لهذا الخليط السام إلى إصابتهن بحروق كيميائية.

المرأة المصابة التي التقت بينيت صورتها في الأسر. هذه الإصابات التي تعاني منها هي حروق كيميائية ناجمة عن امتزاج وقود القارب بمياه البحر المتطايرة فوق ساقيها.

كانت المرأة ذات الوشاح الوردي قد أصيبت بحروق كبيرة امتدت على ساقيها. جلست على الأرض بصمت، تتنفس بصعوبة والألم واضح على وجهها. وكانت نساء أخريات تبعدن الذباب عن الأنسجة البشرية التالفة بأوشحتهن. حتى أن بعضهن حاولن تغطية الحروق بضمادات متسخة.

همست في أذني إحدى النساء قائلةً: "نحن خائفات. لا أحد يريد البقاء هنا. نريد العودة إلى ديارنا. هم يؤذوننا ويضربوننا ..." لكنها توقفت عن الكلام عندما تحرّك أحد الحراس إلى مسافة أقرب منا.

بالنسبة إلى بعض النساء، كانت هذه المحاولة الثالثة للهرب من ليبيا عن طريق البحر، لكنها جميعها باءت بالفشل وتمّ اعتراضها من قبل خفر السواحل الليبي وإعادتهن إلى مركز احتجاز. أنا لا أعرف ما حدث للمرأة ذات الوشاح الوردي. لكن من دون الرعاية الطبية التي تحتاج إليها بشدة، أشكّ في أنها لا تزال على قيد الحياة".

زينيت: يمكن للوضع الذي عايشته في مخيمات المهاجرين في ليبيا أن يجعلك تفكر في ماهية التسوية السياسية التي يمكن أن تحل الأزمة؟ أو ما هو رد فعلك غير ذلك؟

غيوم بينيت: إن وضع المهاجرين في ليبيا فضيحة بحدّ ذاته، لكني أعتقد حقاً أنه من السهل علينا أن ننتقد ليبيا. لا يجب أن ننسى أن ليبيا تعيش حالة حرب، فكل شبر من البلاد غارق في حمأة أعمال عنف. هم يوقفون المهاجرين الذين لا نرغب نحن الأوروبيون في استقبالهم في بلداننا. وفي المقابل، لا تملك ليبيا القدرة على القيام بذلك بطريقة لائقة.

التقيتُ، في العديد من السجون، أشخاصاً عرضوا بفخر أساليب احتجازهم. كانوا يأملون الحصول على المال من الاتحاد الأوروبي، وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الحل. وبالنسبة إلي، من الواضح أنه ينبغي على أوروبا أن تبذل جهداً أكبر للمشاركة في مكافحة الفقر في العالم. كما ينبغي أن تستقبل أوروبا أيضاً عدداً أكبر من المهاجرين أكثر مما تفعل حالياً. وتظهر معظم الدراسات الاقتصادية أنه يمكن القيام بذلك من دون الإضرار بالأشخاص الذين يعيشون أساساً في أوروبا. القضية حقاً لا تتطلّب سوى إرادة سياسية.

في العام 2015، قمت بتصوير "الحرب المنسية" في اليمن. هل ترى أوجه تشابه بين اليمن وليبيا؟ لماذا برأيك لا يتم عرض هذه المآسي للجمهور في الغرب؟

لا يملك الغرب صورة واضحة وكاملة عما يحدث في هذه الدول. ولفهم ما يحدث هناك، لا بدّ من الشرح مطولاً، تحتاج إلى الوقت والمكان المناسبين. لم تعد هذه الأمور موجودة في وسائل الإعلام الرئيسية. ولم تعد المجلات تملك المال الوفير لإرسال الصحافيين إلى الخارج. فأنا شخصياً يتوجّب عليّ عند القيام بأي تقرير البحث عن طرق لتمويله. نادراً ما كان يتمّ إرسالي من قبل أي من وسائل الإعلام.

أنا أعمل بمفردي، أو بدعم من المنظمات غير الحكومية، وأبيع الصور بعد ذلك. لا مال، لا سقف، لا وقت في وسائل الإعلام... هذا يفسّر سبب بقاء الكثير من هذه المآسي غير موثّقة.

بالنظر إلى مجمل أعمالك، مثل الانتخابات الفرنسية أو رحلة على الطرقات الأميركية، هل تجد فرقاً عند تصويرك في ظروف شديدة الاختلاف مثل ليبيا؟

لا، أنا أعمل بنفس الطريقة. أنا التقاط صوراً لما أراه، عموماً بمقياس 35 ملم، وهو الأقرب إلى مجال رؤية الإنسان. في كل مجال، الصفة الأولى المطلوب توافرها هي التركيز. وهناك أيضاً أنواع مختلفة من الصعوبات المتأصلة في كل مجال من مجالات العمل، وفي أي ظرف من الظروف. في فرنسا، مثلاً نواجه الآن صعوبات كبيرة في التقاط صورة للسيدة الأولى، ففريق العلاقات العامة يمنعنا من ذلك، حتى أن الأمور وصلت إلى حدّ رفع دعوى بحق أحد المراسلين.