في مدينة بنغازي المحافِظة، اصبح مركز تاناروت ملجاً للهروب من الحرب، فضاء يستطيع الشباب والشابات الهرب إليه من التطرف والبطالة المتصاعدين بسبب الصراع الدائر.
لم يكن محمد الترهوني يسمع سوى دوي إطلاق النار عندما وصلت الحرب في بنغازي إلى أعتاب بيته. كان حيه محاصراً بين "الجيش الوطني الليبي" بحسب تسمية قائده خليفة حفتر، الذي يدعمه الترهوني، وتحالف واسع من الميليشيات الإسلامية. وخوفاً على أولاده، سرعان ما قام بتوضيب أغراضه وأدخل عائلته إلى السيارة. في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، هربوا إلى أبيار، وهي مدينة صغيرة تقع على بعد 50 كيلومتراً شرق بنغازي.
يقول الترهوني مستسلماً: "لقد دُمّر منزلنا بعد أن غادرنا. كنت مدّمراً، ولكن على الأقل كانت "أبيار" هادئة، مما ساعدني على التفكير في كيف يمكنني مساعدة شعب بنغازي".
بعد ستة أسابيع، عاد الترهوني إلى مدينته الحبيبة، وحده هذه المرة. والتقى لاحقاً صديقه المقرب حسام الثني في احد المقاهي حيث تتواجد مجموعات من الفنانين في كثير من الأحيان. احتسيا القهوة في ضباب من دخان السجائر، وناقشا معايير المحافظة والتطرف المتزايد في المدينة.
في تلك الفترة، كانت الجامعات مغلقة، والبطالة متفشية، مما كان يدفع بالشباب للانضمام إلى الميليشيات والعصابات المسلحة. تم استدراج بعضهم من خلال الرواتب، في حين تعرض البعض الآخر لغسيل دماغ للقتال على "الجانب المحق" في حرب دينية. كما زاد خوف بعض الأسر من تعرض نسائهم وبناتهم للتحرش أو الاغتصاب إذا ما خرجن من المنزل.
كان الترهوني يعتقد أن بنغازي بحاجة إلى مكان آمن حيث يمكن للشباب التعبير عن أنفسهم من خلال الفن والثقافة. وقد تحمّس الثني للفكرة، هو الذي كان ملتزماً أيضاً بإيجاد طريقة لحماية الشباب من الصراع. غير أن خطتهما كانت بحاجة إلى مكان مثل استديو لتنفيذها، ولم يكن بإمكان أي منهما تحمل تكاليف وآجار مكان مناسب. بدئا بالبحث عن مكان مناسب، فاتّصل الثني برجل كان يعرف أنه يملك عقار في حيّ البركة المحافظ.
يقول الثني: " كان هذا الرجل قد أعار أحد أصدقائي غرفةً في الماضي حتى نتمكن من تعليم فنّ الخط. كنت آمل أن أستطيع استعارتها مرة أخرى حتى أتمكن من دفع الإيجار".
بعد التحدث إلى الثني، سلّمه المالك المفاتيح مجاناً لمدة عام. في ديسمبر/كانون الأول افتتح الرجلين النادي الثقافي وأسموه "تاناروت" وهو الاسم الأمازيغي لوادي في الصحراء الليبية. كانت الأمازيغية - وهي لغة احدى قبائل سكّان في شمال أفريقيا الأصليين- مهمّشة خلال حكم معمر القذافي. واعترافاً بالقمع، أطلق على المركز اسم تاناروت للاحتفال بتاريخ ليبيا وثقافتها المتنوعة. ويشرح الترهوني قائلاً: تبقى المياه بعد كل شتاء في وادي تاناروت. ومثل المياه في الصحراء، تحتاج بنغازي إلى الفن والثقافة للتعيش".
مثل العائلة
أصبح تاناروت ملاذاً من الحرب، يقدّم دروساً في الموسيقى والتصوير الفوتوغرافي، في حين يستضيف نادي أسبوعي للسينما. اللوحات والرسومات معلّقة على كل جدار، مما أضاف جواً لجذب الشباب إلى المركز.
في مارس/آذار 2016، أصبح فرج السيلييني عضواً رسمياً في تاناروت بعد أن دفع رسم طالب قدره 10 دينار ليبي (2 دولار أمريكي) في الشهر. وخلال ذلك الوقت، كان يتعلم فنّ الخط وكان دائم الغرقِ في الكتب الموجودة في المركز، ويأتي كل يوم ما لم يكن الطريق الرئيسي مغلقاً بسبب الاشتباكات.
يقول السيلييني الذي سمع لأول مرة عن تاناروت من صديقه: "إن الأصدقاء الذين تعّرفت عليهم في تاناروت سيكونون أصدقائي مدى الحياة". أصبح "الثني والترهوني" بمثابة إخوتنا الكبار. يقولان بأنهما سيتحدثان مع أهالينا لإخبارهم عن أهمية تاناروت إذا كانت لديهم شكوك."
في حين أن والدي السيلييني ليس لديهم اي شكوك حول المركز، فإن والده يشعر بالقلق إزاء التعصب المتزايد تجاه الفن والثقافة في بنغازي. واعتبر بعض الجيران السيلييني خائناً لأنه سافر إلى ألمانيا مع معهد غوته العام الماضي. آخرون يضايقونه الآن لأنه يذهب إلى تاناروت.
على الرغم من الغضب، تشجعه والدته على متابعة دراسته في تاناروت بعد المدرسة. وفي مناسبات قليلة، كشفت عن اعجابها بالموسيقى والأدب والسينما. ويقول السيلييني أنها تتمنى فقط لو تم إنشاء تاناروت عندما كانت صغيرة.
الآن بعد أن أصبح مركز تاناروت الثقافي موجوداً بالفعل، تستفيد الشابات مثل شفاء سالم منه. في مايو/أيار 2016، بدأت الشابة البالغة من العمر 21 عاماً الذهاب الى المركز لتعلم تقنيات الرسم. ودعت أصدقاءها للانضمام إليها، ولكن بعض الآباء لم يسمحوا لبناتهم بالذهاب.
تقول شفاء: "اعتقدت بعض الأسر أنه كان من الآمن أكثر إبقاء بناتها في المنزل أثناء الحرب (في بنغازي). هذا غير منطقي بالنسبة لي. فاحتمال سقوط القنابل على بيتي هو بنفس احتمال سقوطها على تاناروت".
يحثّ الترهوني والثني النساء على الحضور إلى المركز. في وقت سابق من هذا العام، نظمت صديقتهما دينا جلال حلقتي عمل للتصوير الفوتوغرافي، وقد استقطبت كل منهما النساء أكثر من الرجال. علمتهم كيفية التقاط صور ذات جودة عالية بهواتفهم بما أن عدد قليل منهم لديه كاميرا.
يتم عرض أعمال جلال أيضاً على جدار كامل في تاناروت. وتقوم حالياً بإنتاج سلسلة من الصور بالأبيض والأسود لمنزلها الذي قُصف وخرقه الرصاص. وتقول بأن المشروع يصوّر الثمن الذي يدفعه الجميع في الحرب.
وتضيف: "لقد كنت دائماً أشعر بخيبة أمل لأن ليبيا لم يكن لديها مصورين أكثر من الإناث. آمل أن ترى بعضهن نموذجاً يحتذى به".
جيران معادون
مع ازدياد شعبية تاناروت، أصبح حي البركة تقبلاً. لم يوافق العديد من الجيران على وجود مركز ثقافي يدّرس الرجال والنساء في نفس الصفوف. كما اشتكوا من أن الأدب والموسيقى يفسدان الشباب الليبي، ويبعداهم عن ركائز الإسلام.
قام بعض الرجال، اللذين لم يحدد تاناروت هويتهم بعد، بتعطيل الدروس عن طريق قطع الإنترنت، في حين أن السلفيين يديرون حملات على الفيسبوك يحرضون فيها على الكراهية. شعر الترهوني والثني بالقلق المستمر، خوفاً من أن يغلق المتطرفون المركز بالقوة. ومثل بقية المجتمع المدني، لم يتمكنا من الاعتماد على الجيش الوطني الليبي لحمايتهم.
في 23 أبريل/نيسان 2017، حضر أعضاء تناروت حدثاً للاحتفال بيوم الكتاب الوطني. عندما عادوا إلى المركز، لاحظوا أن أقفال الأبواب متضررة. وفي ذلك الوقت، كان الترهوني والثني قد بدئا بدفع إجار الغرفة التي استعاراها سابقاً، بالإضافة إلى غرفة مجاورة لها.
يقول محمد بوسنين، وهو موسيقي ومنسّق برامج لدى تاناروت: "كان أحدهم يحاول اقتحام المركز. لحسن حظنا، لم يكن لديهم ما يكفي من الوقت."
متاعب أخرى كانت بانتظارهم. حيث تعرض تاناروت وأعضاؤه للتهديد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في نهاية شهر أغسطس/آب، بسبب احتفائهم بالكتاب الليبي "شمس على نوافذ مغلقة".
ساهم الثني بعدة قصائد في الكتاب، الذي تم حظره بعد أن أثار موجةً من الغضب في جميع أنحاء البلاد إثر مقطع اعتبرته إحدى المليشيات الإسلامية على أنه "مهين وفاحش". ويقول الثني " لقد كانت حرباً باردة. كان هناك أشخاص في حي البركة دائماً ضدنا. لكنهم شعروا بشجاعة أكبر بعد البلبلة التي اثارها الكتاب".
وبعد أيام، قام رجل بالتعرّض لسيدة في طريقها للدخول إلى تاناروت، مما أجبر السيلييني على التدخل. بعد سماع المواجهة، هرع الثني إلى الخارج لفصل الرجلين. ابتعد السيلييني، ولكن الرجل لم يتراجع. أمسكه الثني بقميصه، لكبح جماحه، ورماه بعيداً. مما أثار توتر الثني، فهو لا يعرف ما إذا كان الرجل الذي دفعه ينتمي إلى ميليشيا أو عصابة. يصف الثني اللحظات اللاحقة قائلاً: "قام الرجل بأخذ هاتفه من جيبه وبدأ بإجراء الإتصالات. بقيت واقفاً بجانب المدخل حتى غادر. لكنني كنت أخشى أن يعود في المساء مع أصدقائه".
عندما اتصّل الثني بالترهوني لإبلاغه عما حصل، اتفقا على ضرورة مغادرة الحيّ. في اليوم التالي، أعلنا على الفيسبوك أن تاناروت مغلق حتى العثور على مكان جديد. لكن لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً. بحلول أكتوبر/تشرين الأول، استؤنفت الدروس في منطقة تسمى "الحدائق".
وعلى الرغم من المثابرة، لا تزال هناك تحديات. يقول الثني إن المركز يكافح مالياً، ويعتمد في الغالب على تبرعات سخية من الخارج. كما أن الجيش الوطني الليبي، الذي يسيطر الآن على بنغازي، لا يشجع او يساعد المجتمع المدني. وهو يتضمن في صفوفه السلفيين الذين اختارهم حفتر، والذين قاموا بإغلاق أحداث ثقافية وحظر الكتب التي يعتبرونها مدنّسة.
غير أن المجتمع في الحدائق أكثر انفتاحاً من البركة. وبينما لا يزال الأعضاء يتعرضون للمضايقات والتهديد على الانترنت، فإنهم يواظبون على الذهاب إلى المركز. ويقول الترهوني بأن تاناروت أصبح عائلة وسط الحرب.
ويضيف: "أرى الأمل في عيون الشباب الذين وجدوا تاناروت. أنا أعلم أننا بنينا مكاناً رائعاً عندما أرى ابتساماتهم".