اندلعت الاحتجاجات في السودان عقب زيادة أسعار الخبز، ليصبح سعر الرغيف ثلاثة جنيهات بعد ان كان جنيه واحد، إلى جانب تدهور الأحوال المعيشية الذي يعاني منه السودانيون منذ وقت طويل، وعدم توفر بعض السلع الحيوية مثل الوقود ودقيق الخبز.
"الكنداكات" في الأصل، هو لقب ملكات حضارة كوش الإفريقية القديمة التي كانت تعيش في السودان، وأصبح لقب يستخدم لمدح النساء في السودان.
لقد برز دور "الكنداكات" السودانيات منذ اليوم الأول لاندلاع الاحتجاجات بالسودان في ١٩ ديسمبر ٢٠١٨، والذي لم يقف عند حد الالتحاق بصفوف المتظاهرين بالشارع، بل أنهنّ اخذن زمام المبادرة في الدعوة إلى الخروج والمقاومة، ولم يثنيهنّ العنف المستخدم من قوات الأمن في مواجهة الاحتجاجات. "لقد تقدمت النساء الصفوف، في مواجهة الترسانة الأمنية والعسكرية للحكومة" على حد تعبير الصحفيّة السودانية "شمائل النور".
وكانت قد انطلقت المواكب (المظاهرات) من الأقاليم، في عطبرة شمال السودان، وامتدت إلى المدن والأرياف السودانيّة. واعتمدت "الزغرودة" كإشارة لانطلاق الموكب، وتقوم أي امرأة، ضمن التجمع، بإطلاق الإشارة
"قبل أن يعتقلوني كنت قد شاركت بالمواكب مرتين فقط أما بعد الاعتقال لم أترك موكب دون أن أشارك فيه"
وقد رفعت المظاهرات، منذ اليوم الأول، شعار المطالبة برحيل النظام، وبلغ عدد الاحتجاجات، خلال الشهر الأول من بداية انطلاقها، ٣٠٠ مظاهرة في ١٥ من أصل ١٨ ولاية سودانية، بحسب تقرير منظمة العفو الدولية. لكن رد الفعل الرسمي جاء رافضًا للاحتجاجات، ومتهمًا المتظاهرين بالقيام بالتخريب، فقد قال الرئيس السوداني عمر البشير في خطابه أمام الآلاف من داعميه، في مدينة "نيالا" بعد يوم من خروج المظاهرات بالمدينة، أن " تغيير الحكومة لا يأتي عن طريق المظاهرات"، وأضاف خلال الخطاب الذي بثه التلفزيون السوداني "قلنا إن لدينا مشكلة اقتصادية لكن لن يتم حلها عن طريق التخريب."
وقد استخدمت قوات الأمن الذخيرة الحية لتفريق المتظاهرين، وأورد تقرير لمنظمة العفو الدولية، في ٢٥ فبراير الماضي، أنه منذ بداية الأحداث، بلغ عدد الضحايا ٤٥ قتيل و١٨٠ جريح، بينما قال مسئولون حكوميون أن عدد المعتقلين على خلفية الاحتجاجات الجارية بلغ ٢٦٠٠ معتقل.
لم تُستثنى النساء مما طال الرجال من أشكال الاذلال التي استخدمتها قوات الأمن مع المتظاهرين، مثل "جود طارق" و"عفرا تركي" اللاتي تم قص شعرهن على يد قوات الأمن. كما تعرضت د. وفا الجرشي للصعق الكهربائي أثناء التوقيف والاعتقال، بحسب تقرير "التحالف الإقليمي للمدافعات عن حقوق الانسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، والذي ذكر أيضًا حالات قتل للمتظاهرات، مثل "أنصاف موسي" في القضارفِ بشرقِ السودان يوم 20 ديسمبر، "ومريم محمد عبد الله" أثناء مشاركتها في مظاهرة سلمية في عطبرة يوم ٢٣ ديسمبر. إلى جانب استهداف الناشطات الحقوقيات والمحاميات والصحفيات، حيث يقول التقرير أن نحو مئة من المدافعات عن حقوق الانسان تعرضن للاحتجاز التعسفي.
"رغم تعرض النساء للضرب والاعتقال وصنوف من الانتهاكات، لم تتراجع مشاركتهن في الميدان"
تقول الصحفية السودانية "شمائل النور" إنها "تعرضت للاعتقال مرتين، كما أوقف الأمن العمود اليومي الخاص بها في صحيفة التيار". بينما تتحدث "سناء" (اسم مستعار) صاحبة الـ ٢٨ عام -إحدى المتظاهرات الاتي تم احتجازهن بالقسم الشمالي بمدينة الخرطوم إثر مشاركتها في موكب17يناير- عن تجربة الاعتقال: "كانت أول مرة في حياتي أدخل معتقل أو قسم شرطة، في بداية نزولي مع المواكب كنت أخشى الاعتقال، وصراحة عندما تم اعتقالي، ارتعبت في اللحظات الأولى. لكن بعد ما تعرضت له داخل المعتقل سقط حاجز الخوف عندي، لأن ما كنت أخشاه قد حدث فعلاً، لقد تم ضربي ونبذي وتعرضت للإساءات وحرب الأعصاب، فلم يعد هناك ما أخشاه."
وكان قد انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع مصور لهتاف المحتجزات بالقسم الشمالي، واللاتي رددن: "تسقط بس. حرية.. سلام.. عدالة.. سلمية ضد الحرامية.. الثورة اختيار الشعب."
وعن مدى تأثير الاعتقال في قرار الاستمرار في النشاط الثوري، تقول سناء:" لم أندم نهائيًا على خروجي بالمواكب، بل على العكس، قبل أن يعتقلوني كنت قد شاركت بالمواكب مرتين فقط أما بعد الاعتقال لم أترك موكب دون أن أشارك فيه".
وتزيد "شمائل النور" أن: "رغم تعرض النساء للضرب والاعتقال وصنوف من الانتهاكات، لم تتراجع مشاركتهن في الميدان لدرجة أنك ربما تقابلك مظاهرة جلها من العنصر النسائي".
لم تقف المشاركة النسائية عند حد الانضمام إلى صفوف المتظاهرين، ولكنها امتدت إلى التنظيم والدعوة إلى الخروج في المواكب، مثل دعوات مبادرة "لا لقهر النساء" النسوية، وتجمع "محاميات بلا حدود"؛ كما نظمت طالبات، جامعة الأحفاد للبنات، تظاهرات من داخل الحرم الجامعي، بل ونشر نشطاء سودانيون مشاهد مختلفة، على مواقع التواصل الاجتماعي، لنساء بادرن بالتظاهر منفردات بالشوارع السودانية، حاملات للعلم السوداني واللافتات.
وكان للنساء الريادة في المقاومة ضد أجهزة الأمن عبر المواقع الالكترونية، فقد برزت مجموعة "المنبرشات" على الفيسبوك وقوامها حوالي ٣٠٠ ألف عضوة والتي كانت قد بدأت منذ سنوات كمجموعة مغلقة مخصصة للنساء، حيث تضع الفتيات صورة للرجل الذي ترغب في الارتباط به وتشاركها فتيات المجموعة بالإدلاء بأية معلومات يعرفنها عنه. ولكن منذ بدء الأحداث، في ديسمبر ٢٠١٩، أصبحت "المنبرشات" منبر لنشر صور رجال الأمن المتورطين في قمع المتظاهرين.
"الرجال الذين يقولون إن المرأة لا ينبغي لها الخروج إلى التظاهرات، هم، في رأيي، جهلة."
“لقد أصبحت FBI!”، تقول إحدى مؤسسات المجموعة خلال لقاء تلفزيوني على شاشة الجزيرة، وتضيف "أحد رجال الأمن تم نشر صورته في المجموعة، وعندما دعا أصدقائه إلى حفل تخرجه لم يأت أحد". وترجح إحدى القائمات على الجروب أن رجال الأمن أصبحوا يلجؤون إلى اخفاء وجوههم من بعد ذلك خوفًا من فضح هوياتهم.
وقد عمدت السلطات السودانية إلى قطع خدمة الانترنت في البلاد، على الرغم من أن الرئيس السوداني قد أشار ساخرًا، عبر إحدى خطاباته، قائلاً: "تغيير الحكومة أو الرؤساء، لا يمكن أن يتم من خلال واتساب أو فيسبوك".
لم تقم مجموعة "المنبرشات" فقط بكشف رجال الأجهزة الأمنية، فقد تم كشف امرأة، كانت تشارك في المظاهرات وتتعاون مع الأمن، من خلال المجموعة. لم تكن هي الامرأة الوحيدة التي تعاون أجهزة الأمن ضد المتظاهرين، فقد تحدثت الناشطة "لبنى" (اسم مستعار) عن سوء معاملة "الحارسات"، داخل أماكن الاعتقال، للمحتجزات من النساء؛ وقالت إنها وزميلاتها، قد تعرضن للتعدي اللفظي والتهديد بالضرب. وقد تم إطلاق سراحها بعد إمضاء تعهد بعدم الخروج إلى المظاهرات مرة أخرى، وذكرت أن الضابط المسئول كان قد أبدى اندهاشه، أثناء التحقيق معها، من خروج النساء إلى المظاهرات، واعتبر أن تلك النساء هن المسئولات عما تعرضن له من ضرر.
"الثلاثين عاماً الماضية من حكم، الاسلام السياسي، أراد تقلص دور المرأة ذاك ونسفه تماما"
وتعلق سناء قائلة: "الرجال الذين يقولون إن المرأة لا ينبغي لها الخروج إلى التظاهرات، هم، في رأيي، جهلة. المرأة في السودان تمثل أكثر من نصف المجتمع، فإذا كل رجل منع أخته أو زوجته من الخروج إلى التظاهر ستفقد الثورة نصف الشعب، وذلك عامل كبير في نجاحها او فشلها".
وعن دور المرأة السودانية السياسي تقول "شمائل النور": "برز دور النساء في الحراك السياسي والحقوقي في السودان منذ عقود، لكن الثلاثين عاماً الماضية من حكم، الاسلام السياسي، أراد تقلص دور المرأة ذاك ونسفه تماما، وذلك انطلاقًا من ايدولوجية السلطة التي ترى في ان الأنثى منقوصة، ويجب ان تبقى في بيتها. وقانون النظام العام، سيء السمعة، ما هو إلا اداة من ادوات قهر النساء. لكن يبدو واضحا أن النتائج جاءت عكسية تمامًا، فما ظهر في مظاهرات ديسمبر كان مهيب ومحيّر للكثيرين"، وتردف: "يمكن القول إن هذه الثورة غيرت نظرت الكثيرين لدور المرأة، واستعادت العديد من النساء ثقتهن، التي حاولت سنوات الاسلام السياسي ضعضعتها."
الجدير بالذكر أن تاريخ نضال النساء السودانيات يمتد إلى عقود مضت، أحدثه كان من خلال موجة الاحتجاجات في عام ٢٠١٢، حيث كانت شرارة الانطلاق الأولى على يد طالبات من جامعة الخرطوم، اللاتي قمن بالتظاهر داخل السكن الطلابي، على خلفية تدابير التقشف التي اتخذتها الحكومة آنذاك، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وبالتالي صعوبة تحمل تكاليف الوجبات والمواصلات بالنسبة للطالبات، وقد أعقبتها احتجاجات بالمدن السودانية والتي طالبت، آنذاك، بإسقاط النظام.