في ملهى ليلي في تونس، تتبع طقوس غريبة، حيث يرمي الليبيون النقود لمغنية كي تشيد بأمجاد مدنهم. يبدو أنه يمكن ايجاد السلام في الحانة... للحظة.
يفتح الحارس البوّابة الخشبيّة ويرحّب بالوافدين بلهجته التونسيّة: " أهلًا بكم في ليالي بيروت ". نَعبُر رواقًا خافتَ الإضاءة، جدرانه حمراء مخمليّة تُشعرُكَ وكأنّك في بيت دعارة باريسيّ من ثلاثينيّات القرن الماضي. تقِفُ امرأةٌ مفترضٌ بها أن تكون بائعة هوى عند زاوية الصالون. تحاول الإغواء وهي تدخّن سيجارتها. جسمها ممتلئ قليلًا، ترتدي فستانًا زهريًّا قصير جدًا يحمل رسومًا كجلدة النّمر. ثدياها ظاهران عند الجوانب. الجدران المخمليّة حمراء. السّجّادات حمراء. الكراسي حمراء. مفارش الطّاولات حمراء – حتّى الثّريّات حمراء. تكاد الساعة تشير إلى الثانية فجرًا ولا يزال الصالون نصفه فارغ. قلقنا إذ تأخّر الوقت، ولكنّ النّادل المبتسم طمأننا قائلًا: " لا تزال الليلةُ في بدايتها".
وبالفعل، يبدأ الناس (رجال بمعظمهم) بالتهافت حتّى يكتظّ المكان. تصعد المغنّيات، الواحدة تلوَ الأخرى، إلى المنصّة ويؤدّين عروضهن. تُقدّم زجاجات المشروبات الكحولية في دلاء، مليئة بالثلج، وعلى فتحتها الشموع المفرقعة. أتتنا فكرة زيارة الحانة بعد أن سمعنا أخبارًا لا تُحصى ولا تُعَدّ عن تصرّفات الليبيّين الأثرياء ذوي الأذواق الشّاذّة لا بَل المبتذلة في أماكن مماثلة. تأكّدنا من الأقاويل حين رأينا ما رأيناه، وكان المشهد مسلّيًّا لدرجة أنّنا خلصنا إلى الذهاب هناك مرّتين لا مرّة فحسب.
لمحة عن الخلفيّة: في عام ٢٠١١، سارت ليبيا على خطى الثورات في تونس ومصر خلال ما يسمّى بالربيع العربيّ، غير أنّ الثورة التي شهدتها ليبيا تحوّلت إلى مسلّحة ودمويّة. بعد مرور ثمانية أشهر على اندلاعها، أُسقِطَ معمّر القذافي. لكن بعدئذ، تحيّزت المدن والفصائل التي أطاحت به وانقسمت بين توجّهات ايديولوجيّة وسياسيّة وإقليميّة وعشائريّة مختلفة. في العام ٢٠١٤، نشبت حرب ليبيا الحاليّة.
وإذا ما أمعنّا النّظر داخل ليالي بيروت، لرأينا أنّ كلّ طاولة تمثّل بلدة أو مدينة وبالتالي، المحاذاة السياسيّة للفصائل الليبيّة العديدة المتنازعة. يفيد بعض الزبائن الدائمين أنّه حتى السلفيّين يزورون المكان بين الحين والحين؛ يبدو أنّ داعش هو الفصيل الوحيد الذي لا تمثيل له هنا.
عادةً تسير الأمور على هذا النحو: تبدأ المغنّيات بالنّزول عن المنصّة والاتّجاه حوالي الطاولات، يتبعهن رجل يحمل سطلًا. تبدأ كلّ طاولة برمي النقود، فيهتف عندها المغنّون باسم المدن العائدة لمن رما النقود أو عشيرته وأحيانًا شخصيّته السّياسيّة المفضّلة. يجمع الرجل الذي يحمل السّطل ما يتمّ إلقائه؛ ثم ينتقل مع المغنّية إلى الطاولة التالية.
يتردّد صدى المشاكل الماليّة التي تواجهها ليبيا في الحانة التونسيّة، تمامًا مثل السياسة فيها. إنّ البلاد التي تدفّقت فيها في الماضي عائدات النفط باتت تعرج الآن جرّاء الأزمة الاقتصاديّة وحالات النقص النقدي الناتج عن اتّكالها الحصريّ على تصدير النفط الذي تراجع بشكل ملحوظ بسبب الصّراع، ناهيك عن تأثيرات الصراع الأهليّ الجاري بحدّ ذاته. بحسب الزبائن الدّائمين الذين تحدثنا معهم، لم يعُد الليبيّون ينفقون كالسابق.
لكنّهم ما زالوا يفتحون محفظاتهم. خلال الليلة الأولى لزيارتنا، بدأت الحفلة مع مغنّية شقراء نصف عارية كانت تُدَندِنُ "تحيا ليبيا، يحيا الليبيّون". أغنية تلوَ الأخرى، تمشي بين الطاولات وتوزّع التحيّات بينما يجمع الرّجل النقود التي تتساقط. تتقدّم الأحداث ببطء، من دون أن تبلغ حدّ الأخبار التي سمعناها. يقرّر زميلي أن يسرّع مجرى الأمور فيرمي ورقة ٥٠ دينارًا (٢٠ يورو) ويطلب منها أن تهتف باسم سيجعل الأمور شيّقة: " تحيّات لتاورغاء، تاورغاء الجميلة “.
في عام ٢٠١١، تمّ طرد سكّان تاورغاء وتفرقتهم انتقامًا لحصار مصراته. على الفور، تحيّزت الطاولات تمامًا مثل الساحة السياسيّة الليبيّة. افتُتِحَت مباراة رمي النقود المشهورة. وباتت كلّ تحيّة لمدينة منسوبة لعمليّة كرامة ليبيا (إحدى الفصائل الليبيّة المتنازعة) تقابلها تحيّة أخرى منسوبة لفجر ليبيا. " تعيش سوق الجمعة. تعيش طرابلس ". " تعيش الزنتان". " تعيش مصراته ". وهكذا تواليك.
إنّ الحيلة التي اعتمدها زميلي جعلت منه محطّ انتباه الجميع في المكان. يشيدُ به مؤيّدو كرامة ليبيا عليها، ويحذّرونه من وجود "العدوّ" في الحانة. يلومه مؤيّدو فجر ليبيا على إثارة الفتنة في الحانة.
لكن في النهاية، وبعد أن أسرف المشتركون كلّهم في احتساء الخمور، قرّرت الفصائل أنّ ليبيا واحدة موحّدة وبدأت ترمي أموالها من أجل هذا المثال الأعلى. لم نكُنْ نصدّق المشهد الذي رأيناه. فقد ولّدت المشاعر الفظّة التي أثارها شرب الكحول نوعًا من "الحوار" الصّحّيّ غير المتوقّع. يبدو أنّ الحانة التونسيّة نجحت في تأمين ما فشلت أحاديث منظّمة الأمم المتّحدة عن السلام في توفيره: الوحدة.
الليلة الثانية
في الليلة الثانية، تظهر شخصيّة جديدة – فَلنُسَمِّها معتَزّ. هو مهرّب تونسيّ ودود من بنقردان، يعرف جميع الحاضرين في الحانة تقريبًا. تعانقه النّادلة؛ تخصّه المغنّية بتحيّة مميّزة: "حبيبي معتزّ، اشتقْتُ إليك!"
على طاولته أربعة رجال في منتصف العمر، بينهم شريك ليبيّ من الجنوب، إضافة إلى زجاجتي ڤودكا من نوع "غراي غوز" (Grey Goose)، وزجاجة شيڤاس، وعدد من النساء المفترض بهنّ أن يكُنَّ بائعات هوى. يُرسل هو ورجاله التحيّات وزجاجات الشامبانيا إلى الطاولات الأخرى، وإلى المغنّين على المنصّة. لا أحد يتصدّى لمعتزّ؛ الليلة ليلته.
في غضون ذلك، تستكمل باقي الطاولات مباراة رمي النقود؛ بصفتهم سفراء لمدنهم عَيّنوا ذاتهم بذاتهم، فعلى الحاضرين أن يتصدّروا القائمة. تغني المغنّية " يعيش حفتر " على الميكروفون، بالإشارة إلى إحدى الشخصيّات الأكثر إثارة للجدل في ليبيا، ليأتي بعد ذلك دور " بنغازي ". تتأهّب الطاولة التي أمامنا عند سماع ذلك. " قالوا ح ف ت ر! "
ويوقد ذلك المباراة، ويسبّب الذّعر بكلّ وضوح، ويقسم الطاولات (بمعظمها) بحسب الخطوط الإقليميّة – الشرق والغرب، غير أنّ أحدًا لا يمكنه ألّا يلحظ غياب تمثيل جنوب ليبيا. يقول صديقي مازحاً: " إنّ الجنوب منسيّ دائمًا، حتّى في الحانات".
يتلاشى هذا التوتّر وهذا التركيز على الليبيّين، وهم يهزمون بعضهم البعض في حروب الحانة، عند ظهور شخص غير ليبيّ، بل سعوديّ. على الرغم من أنّه غير منخرط فعليًّا بهزم سائر الحاضرين في رمي النقود – هو بالأحرى يريد أن يسمع تحيّة خاصّة لبلاده – يرمي رزمة من النقود، الورقة تلوَ الأخرى، في حركة لامتناهية من إعطاء أوراق العشرين دينار للمغنّية.
لا يبدو أنّها تريد مغادرة تلك الطاولة. تغنّي قائلة "إلى شباب السعوديّة الوسيمين". بعد لحظات، يشعر معتزّ بالمسؤوليّة في أن يربح هذه الجولة من أجل ليبيا، البلد المحطّم؛ يتبختر ليصل إلى طاولة الرجل السعودي ويرمي بعض النقود على المغنّية، معيدًا التركيز على ليبيا.
تأكدت نظريّة أن العدوّ الأجنبيّ قادر على لمّ شمل البلاد، حتّى ولو خلال تجربة صغيرة في الحانة. تعبيرًا عن الوحدة التي يقودها الحماس المتشابك، يبدأ الليبيّون بطلب الأغاني عن ليبيا، عوضًا عن التي تخصّ مدنهم. تشير الساعة إلى السادسة صباحًا. الحانة مليئة بالحياة كعادتها، إلى أن تعود أغاني "حفتر" لتشنّج الأجواء مرّة أخرى. ومع رحيل العدوّ الأجنبيّ المشترك، عاد الليبيّون للتشاجر مع بعضهم البعض. يُجري معتزّ، نظير مبعوث الأمم المتّحدة إلى ليبيا مارتن كوبلر في الحانة، جولاته من أجل السلام مجدّدًا ويعيد الأجواء المرحة.
وفيما نحن نهم بالخروج عبر الرّواق الخافت الإضاءة، تنفتح البوّابات على مشهد سيّارة بورش ليبيّة اللوحة تغادر. اشرقت الشمس. في طريق العودة، لم أستطع سوى أن أتأمّل بالمشاهد التي رأيتُها للتوّ في الداخل، وأفكّر في إمكانيّة أن تشكّل الحانات التونسيّة منصّة للحوار الذي تطمح الأمم المتّحدة أن تقيمه – أو على العكس، بحسب درجة السكر.