الميليشيات الليبية تحكم سيطرتها على حساب الشعب. فهل تستطيع مجموعة إصلاحات جديدة ان تغيّر المعادلة، حيث يعاني الليبيون، في جميع انحاء ليبيا، ماديّاً.
"أظل في انتظار دوري حتى أسحب بعض المال، بالطبع تغير شيء، ولكن إلى متى؟" يقول محمد مزداوي ذو الـ 60 عاماً، وهو يقف خارج أحد البنوك في وسط طرابلس، بالقرب من ساحة الشهداء. برغم الساعة المتأخرة من المساء، لا تزال البنوك مفتوحة، والناس يصطفون بالمئات، النساء في جانب والرجال على الجانب آخر.
أمام البنوك، هناك جنود لتنظيم الصف، يرتدون الزي الرسمي لوزارة الداخلية الليبية، وهناك رجال مسلحون آخرون، هم رجال هيثم تاجوري، قائد مكتب اللواء الثوري في طرابلس، إحدى أقوى الميليشيات في العاصمة الليبية. رجال تاجوري يقررون من يدخل ومن يخرج. بينما تقف سياراتهم، المرسيدس الجديدة البرّاقة، ودراجاتهم النارية، أمام البنوك.
من حين لآخر يظهر هيثم التاجوري نفسه ويتلقى تحيات الناس، لأنه لأول مرة منذ سنوات، أصبح ممكنا للمواطنين الليبيين سحب 5000 دينار، بدلا من 500 دينار في الشهر. يصرخ أحدهم: "كل ذلك بفضل هيثم"، أو "تاجوري بطلنا"، لأنهم يعتبروه انه هو من ضغط على البنك المركزي وفروع البنوك لتمكين المواطنين من سحب المزيد من المال.
"مازلنا نقف في الطابور للحصول على القليل من المال والبنزين، الذي بالكاد يكفي للناس العاديين"
يقول محمد بصوت خافت: "لا تنخدعٍ، هناك فقط عدد قليل، من البنوك تفتح حتى وقت متأخر، كلهم في هذه المنطقة فقط، في الأحياء التي يسيطر عليها تاجوري. إذا ذهبت إلى مناطق أخرى من المدينة فإن الوضع هناك مثلما كان من قبل، دائما نفس القواعد، القليل من المال للمواطنين. يجب دفع رشاوي لرجاله الذين يسمحون لك بدخول البنك وسط حالة من الخوف والانتظار وخيبة الأمل. يعتقد الناس أن الميليشيات أصبحت فجأة سخية مع المواطنين، والحقيقة أن الميليشيات خائفة من فقدان السلطة بعد حرب سبتمبر، هم يدافعون عن أنفسهم وقوتهم ومصالحهم".
ثم يعود إلى الصف، وهو يحمل حقيبة تسوق في يد، وجريدة في اليد الأخرى ويقول: "نحن كنا وما زلنا بلدا غنيا، نحن نسير فوق بحر من النفط والغاز، ولكن مازلنا نقف في الطابور للحصول على القليل من المال والبنزين، الذي بالكاد يكفي للناس العاديين، لكن بالنسبة إلى أمراء الحرب الذين يديرون عمليات التهريب وينهبون ثروتنا، فهناك مؤونة لا تنتهي".
عانى المواطنون من أزمة سيولة نقدية مستمرة وانخفاض القدرة الشرائية، وفقاً لمركز الأزمات الدولي، نتيجة لارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة قياسية بلغت 28 في المائة في عام 2017.
لا يزال الوضع السياسي في ليبيا يتسم بالاستقطاب، من جهة، قوات خليفة حفتر، القائد العسكري في الجزء الشرقي من البلاد، وعلى الجانب الآخر، حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج ومقرها طرابلس.
نشبت معركة دموية، خلال شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، في العاصمة طرابلس، بين الجماعات المسلحة المتنافسة على مزيد من السيطرة. كان طرفيّ النزاع اللواء السابع ترهونة، وفي الجهة المقابلة، الميليشيات المتنافسة المرتبطة بحكومة الوفاق الوطني. وتسببت الاشتباكات في مقتل 120 شخصًا ونزوح الآلاف، وانتهى الاشتباك بهدنة تحت مظلة الأمم المتحدة.
بحسب قادة اللواء السابع، المدعومين من لواء الصمود بقيادة صلاح البادي، السبب خلف تلك الاشتباكات أنهم أرادوا تحرير المدينة من فساد تكتل الميليشيات وضمان حصول المواطنين على ثرواتهم وأموالهم.
من المؤكد أن اشتباكات سبتمبر هي اشارة أخرى إلى انفلات الحكم، وغياب التنظيم لدى القوات المسلحة، وعدم احتكار القوة العسكرية من جانب واحد. وكلما كانت الحكومة ضعيفة في الميدان، كلما كان نفوذ المليشيات أقوى.
"إن المليشيات هي أكبر تهديد لليبيا، ليس فقط بالنسبة للصناعة النفطية، ولكن بالنسبة للمجتمع ككل."
مما زاد الفوضى تعقيدا أن حكومة السراج جعلت وجود المليشيات شرعياً، في العامين الماضيين، وأدرجتها جزئيا في المؤسسات. وتمكنت الميليشيات، باستخدام القوة، من فرض شروط على القادة السياسيين الذين يسهلون أعمالهم.
فأصبحت الميلشيات تقوم بدوريات في الشوارع بشكل مشابه للمافيات المؤسساتية المعاصرة أكثر من كونها عصابات المسلحة، وتكتسب قوتها الحقيقية اليوم، في الواقع، من خلال التأثير على السلطة السياسية من الداخل.
"إن المليشيات هي أكبر تهديد لليبيا، ليس فقط بالنسبة للصناعة النفطية، ولكن بالنسبة للمجتمع ككل. ولا تزال الميليشيات العامل الرئيسي في الصراع والاضطراب الذي تلاه، كما يقول مصطفى صنع الله، رئيس شركة النفط الوطنية NOC، معلقاً على تطورات الأشهر الأخيرة. كان رد فعل NOC جيداً تجاه تلك الفوضى، حيث بلغ متوسط الإنتاج أكثر من مليون برميل يوميا. لكن الكتائب هي جماعات مسلحة قادرة على استغلال الهياكل الأمنية المجزأة وتهديد أنشطة شركة نفط الشمال لمصلحتها الاقتصادية، ولم يعد ذلك مستداماً بالنسبة لشركة نفط الشمال أو الدولة بأكملها. يمكن للشفافية المالية ويجب عليها أن تلعب دوراً أساسياً، لذلك يجب أن يعرف المواطنون كيف يتم استثمار كل ديناميكيات الدخل في إنتاج النفط، ومن يديرهم، وكيف وأين يتم استثمارها. هذا أمر حاسم بالنسبة لليبيين ".
بعد حرب سبتمبر، أعلنت الحكومة عن الإصلاحات الاقتصادية لعلاج النقص المزمن. قام رئيس مجلس الرئاسة، فايز السراج، رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، ومحافظ البنك المركزي الليبي الصديق الكبير، يوم 12 سبتمبر بالتوقيع والتصديق على حزمة الإصلاحات الاقتصادية التي تشمل أسعارا جديدة للعملات الأجنبية في البنوك الليبية، لإنهاء أسعار الوقود المشوهة ولمجابهة أسعار العملات الأجنبية في السوق السوداء.
"ستقوم المصارف التجارية في ليبيا بجمع رسوم تعاملات الشراء وستودعها في حساب خاص للمساعدة في سداد الدين العام والتزامات أخرى" كما تقول الإصلاحات. أحد الأهداف الرئيسية للإصلاحات هو الحد من الاستفادة من موارد الدولة من قبل أولئك الذين يمكنهم الحصول على العملات الأجنبية بالسعر الرسمي (1.38 دينار = 1 دولار أمريكي) والبيع بسعر السوق السوداء (حاليا 5.3 دينار = 1 دولار أمريكي).
هذه الفجوة أتاحت الفرصة لخداع الدولة وسرقة الأموال من المجتمع قبل كل شيء عن طريق استيراد البضائع باستخدام القرض السندي، وهي طريقة تستخدمها الميليشيات في كثير من الأحيان لتضخيم عمليات الشراء لتحقيق الربح.
أما الإصلاحات، فهي تؤسس لتأثير الدولار في السوق لتقوية الدينار. ولتحقيق هذا الهدف، فرضت الحكومة رسوم خدمة قدرها 184 في المائة على سعر الصرف الرسمي لجميع المشتريات بالعملات الأجنبية المطلوبة للمعاملات التجارية أو الشخصية. ووفقاً لخطة الإصلاحات، يجب إنشاء لجنة تقنية للهيئتين إلى جانب وزارتي المالية والتخطيط.
إن الإصلاحات، التي كانت ضرورية وطال انتظارها، تتلقى انتقادات من المحللين الذين يشككون في فعاليتها، فمن الصعب - في الواقع - التفكير في فعالية حقيقية للإصلاحات الاقتصادية بدون إصلاح نموذج الدعم، في بلد حيث مستوى الفساد مستشري ومقلق، وحيث المؤسسات الاقتصادية، بدءا من البنك المركزي بحاجة إلى إعادة توحيد.
يكتب تيم إيتون، زميل أبحاث تشاتام هاوس، لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: "في حين أن هذه الإصلاحات الاقتصادية قد تخفف بعض المشاكل الاقتصادية في ليبيا، إلا أنها لا تمثل الحل، وربما تزيد الأمور سوءًا بالنسبة للبعض، إذا أدت التغييرات إلى ارتفاع الأسعار. كذلك يجب عدم التقليل من أهمية قوة أولئك الذين يسيطرون على سوق ليبيا غير المشروعة، سواء من خلال العنف أو الفساد. إن الطبيعة الشديدة المركزية للإطار المؤسسي الليبي تعني أن السيطرة على مؤسسات الدولة في طرابلس هي السيطرة على توزيع إيرادات الدولة، مثلما يعكسه العنف الأخير في طرابلس ومنطقة الهلال النفطي الليبي. إن الجهود المبذولة لتقليص الفرص للذين يستفيدون من موارد الدولة الليبية وإعادة توحيد المؤسسات الليبية هي مساعي جديرة بالاهتمام. ومع ذلك، يجب أن تسعى الأمم المتحدة وشركاؤها الدوليون إلى تقريب نهج قصيرة الأجل مع محاولات لدعم المزيد من الإصلاح الجوهري ".
"تخسر البلاد ما يصل إلى 750 مليون دولار سنوياً بسبب المجرمين"
في تقرير صدر مؤخرًا عن مجموعة الأزمات الدولية، تسلط كلوديا غازيني الضوء أيضًا على العناصر المهمة للإصلاحات.
ليس من الواضح كيف سيتم استخدام الإيرادات الضريبة المفروضة على الخدمات، إذ يشعر المسؤولون الحكوميون بالقلق من قدرة السراج والمحيطين به على استخدام هذه الأموال لشراء الولاء بدلاً من تمويل مشروعات التنمية. يكتب جازيني: "سؤال آخر هو ما إذا كانت هذه الأموال ستدخل في ميزانية الحكومة العادية، التي يمكن للمدققين مراجعتها، أو ستبقى خارج حدود الميزانية، مما يسمح بتدقيق مالي أقل. يجب على الدولة أن ترصد إشرافًا دقيقًا على تخصيص هذه الأموال ".
من الإصلاحات الضرورية بالتأكيد خفض دعم الوقود الذي يعد أحد أسباب التهريب، وهو مصدر دخل الميليشيات على حساب المواطنين (تكاليف تهريب الوقود تكلف خزينة الدولة إلى 6 مليارات دولار سنوياً)
يقول مصطفى صنع الله: "ينبغي التأكيد على مدى أهمية إصلاح نظام دعم الوقود. إن محطات التزود بالوقود غير قادرة على حماية الموارد، مما يؤدي إلى نقص في العرض وارتفاع الأسعار، فتخسر البلاد ما يصل إلى 750 مليون دولار سنوياً بسبب المجرمين الذين يفشلون في كل عملية وساطة سياسية للحفاظ على الاتجار غير المشروع، لذلك فإن إصلاح نظام المساعدات هو مفتاح الاستقرار والأمن السياسي، إذ من الأهمية بمكان أن يتم إدارة عائدات النفط والوقود من قبل البنك المركزي لضمان إدارة شفافة لهذه الموارد ".
"البلد يقف على حافة الانهيار، وهو عرضة لوضع أمني هش"
لقد صوّت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتمديد ولاية فريق الخبراء حتى 15 فبراير 2020، وهو الفريق المشرف على العقوبات التي تستهدف التصدير غير المشروع للنفط الخام والمنتجات المكررة من ليبيا. وشدد مجلس الأمن على أن المسؤولية الأساسية لحكومة الوفاق الوطني هي اتخاذ التدابير المناسبة لمنع التصدير غير المشروع للنفط، بما في ذلك النفط الخام والمنتجات البترولية المكررة في ليبيا.
وتعد الرؤية طويلة الأجل والإصلاح الهيكلي للإعانات من الخطوات الضرورية لضمان تحقيق الإصلاحات الاقتصادية لشهر سبتمبر باعتبارها إنجازات دائمة وليست كمجرد واجهة، حيث أنه من الضروري إعادة توحيد المؤسسات التي تهتم بالمصالح الاقتصادية للبلاد، مقسمة بين الشرق والغرب.
يقول صنع الله: "البلد يقف على حافة الانهيار، وهو عرضة لوضع أمني هش، مثلما يتضح من الهجوم على مقر شركة النفط الوطنية في سبتمبر الماضي، التي أسفرت عن مقتل اثنين، وجرح عشرة. هناك افتقار مستدام للشفافية في أعمال الحكومة وغياب ملموس للنزاهة في جميع أنحاء البلاد حول كيفية توزيع أموال البلاد".
وعلى الرغم من الفوضى، تجدد شركات النفط اهتمامها والعودة إلى اتفاقيات الاستكشاف، والتي كانت خارج اهتمامها سابقا. إذ وقعت ENI وBP مؤخراً اتفاقية تؤكد على الثقة في هذا القطاع، وسيسمح خطاب النوايا LOI)) بالانطلاق في عملية حصول شركة Eni على حصة قدرها 42.5٪ في شركة BP للتنقيب عن النفط والغاز في ليبيا، بهدف زيادة أنشطة التنقيب والتطوير داخل البلاد وتعزيز بيئة الاستثمار في ليبيا. كما يعزز خطاب النوايا التزام الأطراف المختلفة بالمساهمة في التنمية الاجتماعية في البلاد من خلال تنفيذ مبادرات التأثير الاجتماعي، بما في ذلك برامج التعليم والتدريب الفني المحددة.
يقول صنع الله: "يجب الاستمرار في حماية استقلالية شركة نفط الشمال بقرارات مجلس الأمن الدولي. فليبيا بحاجة إلى جهاز أمني رسمي وموحد، والذي بدونه ستظل شركة نفط الشمال معرضة باستمرار لتهديد هجمات من يريدون تقويض عمليات التعاون لمصلحتهم الخاصة وتهريب ثروتنا".